اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ
عَنْ أَبِي ذَرٍّ جندب بن جنادة رضي الله عنه – عن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ وَخَالِقْ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ"
هذه الوصية جامعة لحقوق الله، وحقوق عباده، فإن حق الله على عباده أن يتقوه حق تقاته، والتقوى وصية الله للأولين والآخرين.
قال الله تعالى:
{ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ }
(سورة النساء: 131)
وأصل التقوى أن يجعل العبد لنفسه وقاية من غضب الله تعالى باتباع أوامره اجتناب نواهيه، ومراقبته في السر والعلانية، والخوف من ذنوبه، والتوبة منها على الدوام؛ فهو سبحانه أهل أن يُخشى ويُهاب، ويُجل ويُعظم في صدور عباده حتى يعبدوه ويطيعوه عن حب ورضا.
قال تعالى:
{هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ}
(سورة المدثر: 56)
وقد روى الترمذي في تفسير هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال لله تعالى – يعني في الحديث القدسي – "أنا أهل التقوى، فمن اتقاني فلم يجعل معي إلهاً آخر فأنا أهل أن أغفر له".
ويتفاوت الناس في التقوى كتفاوتهم في القدرات والأخلاف فمنهم من يقتصر على فعل المندوبات ويجتنب المحرمات والمكروهات، ومنهم من يترك الجائزات خوفاً من الوقوع في المحرمات، ومنهم من يزهد في الدنيا فيقتصر على ما يسد الرمق ويستر العورات.
والتقوى جماع ذلك كله.
وأصل تمام التقوى أن يعلم العبد ما يُتقى ثم يتقي.
قال عون بن عبد الله: تمام التقوى أن تبتغي علم ما لم تعلم منها إلى ما علمت منها.
وذكر معروف الكرخي عن بكر بن حبيش قال: كيف يكون مُتقياً من لا يدري ما يتقي؟
ومن أعظم وصاياه – صلى الله عليه وسلم – في التقوى ما رواه الترمذي عن يزيد بن سلمة أنه
سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله: إني سمعت منك حديثاً كثيراً أخاف أن ينسنى أوله آخره، فحدثني بكلمة تكون جماعاً، قال: "اتق الله بما تعلم" أي فيما تعلم أنه ينبغي أن تتقي الله فيه.
وقد أمر الله بالتقوى في آيات كثيرة، حتى أنه – جل شأنه – قد أمر بها في الآية الواحدة مرتين، كما في قوله – جل وعلا –:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }
(سورة الحشر: 18)
وفي ذلك دليل على أنها أصل أصول الدين، فهي من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، فمن قال: "لا إله إلا الله" لزمه أن يتقي الله، فالتقوى برهان علي صحة إيمانه، وسلامة يقينه؛ ولهذا سماها كلمة التقوى في قوله – جل شأنه:
{ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا }
(سورة الفتح: 26)
ومعنى قوله تعالى:
{ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى }
أي أوجبها عليهم وعمل مفهومها في قلوبهم فالتزموها التزاماً تاماً بقدر طاقتهم البشرية، فنسبت إليهم هذه الكلمة – كلمة التوحيد – عقيدة وعملاً وأخلاقاً وسلوكاً، فكانوا أحق الناس بها على الإطلاق، وكانوا أهلها حقاً وصدقاً.
وأهلها هم أهل الله وخاصته، يتولاهم بعنايته، ويكلؤهم بحفظه، ورعايته، ويغفر لهم ذنوبهم، ويتغمدهم بواسع رحمته، فهو أهل التقوى وأهل المغفرة، كما صرح بذلك في سورة المدثر.
والناس متفاوتون في التقوى – كما ذكرنا – وقد قال الله عز وجل:
{ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }
(سورة الحجرات: 13)
ولا شك أنه هو محمد صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري:
"أما إِنِّي أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَخْشَاكُمْ لَهُ"
ويليه في التقوى صاحبه أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – وفيه نزل قوله تعالى:
{ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِن نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى }
(سورة الليل: 17-21)
وإن صح أن هذا الآية نزلت فيه فإن اللفظ يحتمل غيره لكن بالتبعية لا بالأصالة؛ لأن إيمان أبي بكر لو وزن بالإيمان الأمة لرجح إيمانه على إيمانها – كما جاء في الحديث.
وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتقي من التابعين وأجدر بأن تكون التقوى أهلهم ويكونوا هم أهلها؟ وهم كالنجوم يستضاء بهم في أمور الدين والدنيا.
ولهذا أمرهم الله – عز وجل – بالتقوى على أتم وجه وأبلغه، فقال:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }
(سورة آل عمران: 102)
أي ألزموا طاعته لزوماً تاماً، ولا تقصروا في شيء أمركم الله به، ولا تقربوا شيئاً نهاكم الله عنه، ولا تحوموا حول الشبهات، وازهدوا في الدنيا، وارغبوا في الآخرة، واخشوا ربكم في سركم وعلانيتكم، وكونوا قدوة لغيركم في العمل بكتاب ربكم، وسنة نبيكم على قدر طاقتكم، وعلى قدر ما وهبكم من العلم والمعرفة، وبمقتضى ما أنزله في قلوبكم من السكينة التي تزدادون بها إيماناً مع إيمانكم كلما تليت عليكم آية من آيات ربكم أو استمعتم إلى كلمة وعظ وتذكيرمن نبيكم.
ولا يأتينكم الموت إلا على الحالة التي أنتم عليها من الإسلام الكامل والخضوع التام لله رب العالمين.
قال ابن مسعود – رضي الله عنه – في تفسير هذه الآية: أن يطاع فلا يعصى، وأن يشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى.
وفي رواية لابن عباس، قال في تفسير الآية: أن يجاهدوا في سبيله حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهن وآبائهم وأبنائهم.
وبسط هذا في قوله تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ }
(سورة الحج: 77- 78)
وبعد هذا التطواف في معنى التقوى يجدر بنا أن نتفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الوصية لأبي ذر – رضي الله عنه –
"اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ"
أي في عموم المواطن، ومختلف الأحوال، ومع كل الناس وفي جميع أمور دينك، وشئون درجات السداد والرشاد، ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وتحصن بها من آفات الطيش، ونزوات النفس، ونزعات الهوى، ووساوس الشيطان، واعتصم بها من غضب الله تعالى وعذابه، وراقب ربك في جميع تصرفاتك، وحاسب نفسك على كل صغيرة وكبيرة حساباً يردعها عن المعاصي، وتعلم أمور دينك حتى لا تقع في الخطيئة وأنت لا تعلم أنها خطيئة، إلى غير ذلك مما يحويه هذا الأمر من المعاني التي لا تخرج عما ذكرناه آنفاً، فمعنى التقوى النجاة – بإذن الله - مما يخاف المؤمن ويحذر.
قال تعالى :
{ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }
(سور الزمر: 61)
وقال تعالى:
{ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ }
(سورة الطلاق: 2- 3)
والله عز وجل مع المتقين يعينهم على التقوى؛ لأنهم طلبوها لأنفسهم ورغبوا فيها، وسلكوا الطريق إليها، وهي معية خاصة لا تكون إلا لأوليائه، وأصفيائه، وأحبائه.
قال تعالى:
{ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ }
(سورة النحل: 128)
وقال عز شأنه:
{ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ }
(سور آل عمران: 76)
ولما كان الأمر بالتقوى في هذا الحديث يوحي للمأمور بها بأنه لا قدر له على استصحابها في كل وقت، وفي كل حال، حيث إنه عرضه للزلل والوقوعفي الهفوات، واقتراف السيئات – أمره النبي صلى الله عليه وسلم بأمر آخر يهون عليه هذا الشعور المخيف، ويهديه إلى الطريقة الصحيحة التي يداوى بها جراحه، ويرفع بها الحرج عن نفسه، ويتلاشى ما وقع فيه من تقصير في حق ربه – عز وجل – فقال له ولأمثاله:
"وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تمحها"
أي إذا وقعت منك سيئة فافعل في مقابلها حسنة يغلب على ظنك أنها تكون جبراً عن تفريطك في حق الله عز وجل، وسبباً في قبول توبتك؛ فإن الحسنة من غير توبة لا تمحو السيئة؛ لأن شرط العفو عن الذنب أن يندم الإنسان على فعله، ويعزم على تركه ثم بعد ذلك يتقرب إليه بما يرضيه مما يحسن فعله.
قال تعالى:
{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}
(سورة الفرقان: 70)
فالإيمان والتوبة والعمل الصالح شرط في محو السيئة بالحسنة بمقتضى هذه الآية.
ومعنى التبديل أن يجعل الله مكان السيئة التي محاها الحسنة التي فعلها عبده، وليس المراد – والله أعلم بمراده – أن الله عز وجل يعطي بقدر سيئاته التي فعلها حسنات، اللهم إلا إذا فع في مقابل كل سيئة منها حسنة، وإن كان لا يمتنع في فضل الله عز وجل – أن يجعل مكان سيئاته كلها حسنات بحسنة واحدة فعلها.
{ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ }
(سورة الرعد: 8)
وقوله صلى الله عليه وسلم:
"وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تمحوها"
مأخوذ من قوله تعالى:
{ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ }
(سورة هود 114)
وفي الصحيحين عن ابن مسعود – رضي الله عنه - :
"أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت هذه الآية، فدعاه فقرأها عليه، فقال رجل: هذا له خاصة؟ قال: بلى للناس عامة"
لكن هذا مشروط بعدم الإصرار كما هو معلوم من قوله تعالى:
{ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
(سورة آل عمران 135)
كما سيأته بيانه.
فمن تاب من ذنبه ثم عاد إليه رغم أنفه أو باختياره في حالة ضعف منه فتاب إلى الله – قُبِلَ منه توبته مهما عاد ما دام لا يصرلا على الذنب، ولا يستخف بخطورته.
جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إِذا أَذْنَبَ عبدا ذَنْبًا فَقَالَ: رَبِّ إِنِّي عَمِلْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْ لي، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: عَلِمَ عبدي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بالذنب، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثُمَّ إِذا أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ – إلى أن قال في الرابعة فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ"
يعني ما دام على هذه الحال، كلما أذنب ذنبا استغفر منه.
وفي الترمذي من حديث أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"مَا أَصَرَّ مَنْ اسْتَغْفَرَ وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةٍ"
وخرج الحاكم من حديث عقبة بن عامر:
"أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أحدنا يذنب؟، قال: يكتب عليه، قال: ثم يستغفر منه، قال: يغفر له ويثاب عليه، قال: فيعود فيذنب، قال: يكتب عليه، قال: ثم يستغفر منه ويتوب، قال: يغفر له ويثاب عليه. ولا يمل الله حتى تملوا"
وهناك من يتوب من ذنوبه وهو يعزم على أن يعود إليها، أو يقول في نفسه سأعمل الذنب ثم أتوب والله غفور رحيم، أو يتوب من الذنب عندما لا يجد القدرة على ارتكابه، وهذا وأمثاله لا يقبل الله منهم توبة، بل قد يعاقبهم على هذه التوبة، وتسمى هذه التوبة توبة المستهزئ بربه – والعياذ بالله تعالى.
وقد كان بعض الصالحين يقول: "استغفارنا يحتاج إلى استغفار" وهذا صحيح؛ لأن المسلم مهما جمع قلبه على الله تعالى، واعتذر إليه، وقرع سن الندم على ما فعل فهو يشعر بأنه مقصر في التوبة أو في سلوك سبيلها، ويتهم نفسه دائماً بالتقصير؛ ولهذا جعل "ابن القيم" من أركان التوبة التوبة من التوبة، أخذاً من قوله تعالى:
{ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
(سورة النور: 31)
فهذه الآية خطاب عام لجميع المؤمنين، فتشمل بعمومها من تاب ومن لم يتب، فالتائب يحتاج إلى تجديد التوبة لتحقق الاستمرار عليها إلى آخر العمر، فهي كما يقول العلماء: أول الطريق ووسطه وآخره.
وللتوبة حديث واسع مفصل في موضع آخر.
لقد كانت الوصية الأولى حقاً خالصاً لله، وكانت الوصية الثانية حقاً للمكلف، وهو حق متصل بحق الله، ثم جاءت الوصية الثالثة فكانت حقاً للعباد بعضهم على بعض، وهي قوله صلى الله عليه وسلم:
"وَخَالِقْ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ"
ومعنى قوله: "وَخَالِقْ النَّاسَ....". أي عاملهم معاملة مرضية، وعاشرهم بالمعروف معاشرة طيبة، وشاركهم آمالهم وآلامهم بروح تعاونية، وسالمهم في المواطن التي تحسن فيها المسالمة، وجاملهم في الأمور التي تحسن فيها المجاملة، وتسلح في مخالطتهم بالصبر والحلم، واعفو والصفح، وأحسن لمن أساء إليك إبتغاء وجه الله تعالى؛ فأفضل الناس عند الله ذو الخلق الحسن.
روى أحمد في مسنده وأبو داود في سننه من حديق أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً"
وأخرج أحمد وأبو داود النسائي وابن ماجه من حديث أسامة بن شريك قال:
"قالوا: يا رسول الله ما أفضل ما أُعطي المرء المسلم؟ قال: الخلق الحسن"
وأخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث عائشة – رضي الله عنها – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجات الصائم والقائم"
وأخرج الإمام أحمد وأبو داود أيضاً والترمذي من حديث أبي الدرداء – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ"
وأخرج ابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو – رضي الله عن النبي عنه صلى الله عليه وسلم قال:
"أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قالوا: بلى، قَالَ أَحْسَنُكُمْ خُلُقًا"
وهذا الحديث بفقراته الثلاثة إجمال لقوله تعالى:
{ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ }
(سورة آل عمران: 133- 136)
فالأول صفة من أوصاف أهل الجنة التقوى، والمتقون هم الذين وصفوا أولاً بالسخاء، وهو الجود والكرم وبذل المال في سبيل الله وفي ميادين الخير، وفي أوقات الرخاء والشدة، ولا يكفون عن العطاء ما داموا أحياء.
والوصف الثاني لهم: كظم الغيظ، وهو أول درجات الحلم، ومعناه حبس الغضب وكبح جماحه لشدة أخطاره، وكثرة أضراره، فإنه لو استحكم الغيظ واشتد الغضب ربما يؤدي إلى إهلاك صاحبه، كما سنعرف عند الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم
"لَا تَغْضَبْ"
والعفو بعد كظم الغيظ هو الحلم في أسمى معانيه، ولا سيما إذا كان عن مقدرة، وهو عزمة من عزمات الله عز وجل.
أما الإحسان بعد العفو فهو في الذروة العليا من الكمال الخلقي والنفسي.
وأما الاستغفار من الذنب وعدم الإصرار عليه فهو التوبة النصوح التي ينبغي أن ترافق العبد في طريقه إلى الله تعالى من أوله إلى آخره.
والمؤمن يراقب ربه في جميع أحواله، ويحاسب نفسه على أفعاله كما ذكرنا، وينتبه بسرعة إلى ما يريده الشيطان به، فيبادر إلى تخليص نفسه من هواجسه، وتمحيص قلبه من وساوسه، فلا يعطيه مهلة ينسيه فيها ذكر ربه عز وجل.
قال تعالى:
{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ }
(سورة الأعراف: 201)
نسأل الله لنا ولكم الهداية والتوفيق