اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ

اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: 

"اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ".

وهذه الوصية تكاد تكون جامعة لكل ما ينبغي الكف عنه وعدم الاقتراب منه.

فالشرك أعظمها جرماً، وأجمعه لخصال الشر، بل هو شر ما بعده شر.

ويليه في الشر ما ذكر بعده.

كان النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يجمع في كلامه عدة من خصال الخير فيأمر بها، وعدة من خصال الشر فيحذر منها، فيقول مثلاً: 

"سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ...". 

ويقول: 

"أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا..."

ويقول هنا: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ". وليست الموبقات سبعاً فحسب، ولكنه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يذكر العدد ليحفظ.

ويبدو لي من أول نظرة في هذه الوصية أن ما بعد الشرك لا يراعي فيه الترتيب الذكرى عند الترتيب في الجُرم. فإذا نظرت إلى كل كبيرة بعد الشرك قلت: إنها أكبر من التي بعدها، فإذا نظرت إلى ما بعدها قلت: بل هذه أشد جرماً مما قبلها. وهكذا.

والحق أن كل خصلة من هذه الخصال تكون أكبر من أختها في وجه دون وجه، بحيث إذا نظرت إليها مجتمعة رأيت أنها في الشر سواء بعد الإشراك بالله.

ومعنى (اجْتَنِبُوا): احذروا كل الحذر، وخذوا لأنفسكم جانباً بعيداً عن هذه الموبقات أي المهلكات لمن فيه واحدة منهن في الدنيا والآخرة. ففي الدنيا عذاب – كما نعلم – وفي الآخرة عذاب، ولعذاب الآخرة أكبر.

أما الشرك بالله فإنه الطامة الكبرى والجريمة العظمى التي لا تغفر أبداً.

ولن يقبل الله عمل عامل من ذكر أو أنثى وهو مشرك؛ إذ الشرط الذي لابد منه في صحة الأعمال وقبولها هو الإيمان الخالص من الشرك.

والموبقة الثانية: التي أمرنا النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – باجتنابها هي السحر، وهو أخو الكفر إن لم يكن الكفر نفسه.

فهؤلاء السحرة ليس لهم في الآخرة نصيب من رحمة الله، بل لهم عذاب فوق العذاب بما كانوا يفسدون. وقد كان قوم فرعون يجيدون نوعاً من السحر غير الذي يعرفه البابليون، فرد الله عليهم كيدهم في نحورهم بالمعجزة التي أيد بها نبيه موسى – عليه السلام.والساحر يقتل إذا لقى الناس منه شراً بعد أن يستتاب، فإن تاب ورجع عن غيه تركناه وشأنه حتى يحكم الله في أمره وهو خير الحاكمين.

وعلى كل مسلم أن يعتزل السحرة أجمعين، ولا يتعامل معهم أينما كانوا، ولا يقترب منهم حيثما وجدوا، ولا يأتي كاهناً يدعي أنه يتصل بالجن فيطلعونه على بعض الأمور المغيبة، ويخدمونه في إخراج الأعمال وتلبية الرغبات وإحضار الغائب وما إلى ذلك من الدعاوي الباطلة.
وكذلك العراف الذي يفتح الكتب المزيفة وينظر في النجوم وهو أجهل من الدواب، ويقص الأثر ويضرب الرمل ويفتح المندل وما إلى ذلك مما لا يصدقه عقل ولا يقره عين.

والموبقة الثالثة: قتل النفس ظلماً وعدواناً، وهو من أفظع الجرائم التي يرتكبها الإنسان في حق أخيه الإنسان، فأي أرض تقله وأي سماء تظله إذا أقدم على هذه الجريمة النكراء بسفاهة وجهل دون رادع من دين أو وازع من ضمير!!

وقد عظم الله جريمة القتل تعظيماً شديداً في قصة قابيل وهابيل فقال في نهايتها 

{ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا }

فقد جعل قتل النفس الواحدة كقتل جميع الناس؛ مبالغة في تعظيم أمر القتل بغير حق، وتهويلاً من شأنه.

وأعظم أنواع القتل جرماً من قتل ولده خشية الفقر أو قتل ابنته مخافة العار كما كان يفعل بعض العرب في الجاهلية. وأشد من ذلك جرماً من قتل نفسه تبرماً من قدر الله وقنوطاً من رحمته.

الموبقة الرابعة: أكل الربا وهو من أكبر الذنوب المهلكة لصاحبها في الدنيا والآخرة.

وقد وصف الله حال المرابين يوم القيامة وصفاً تنخلع منه القلوب فقال: 

{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ }.

فهم يقومون من قبورهم كالمجانين من شدة الفزع والهلع بطونهم أمامهم كأنها جبل أحد كما جاء في بعض الأخبار.

والمرابي إنسان لا عقل له؛ إذ تصور أن الربا فيه ربح كثير من حيث إنه يقرض غيره مبلغاً من المال بزيادة يدفعها المقترض في نظير الأجل مع أن هذا هو الخسران المبين فلا يلبث المرابي أن يفتقر ويذهب ماله بطريقة أو بأخرى، وإن ظل محتفظاً بالمال فإنه لا ينتفع به أبداً، ولا ينتفع به ورثته من بعده.

ولو كان عاقلاً لعرف أن الخير كل الخير في القرض الحسن، فهو صدقة من أعظم الصدقات التي تطفئ غضب الرب تبارك وتعالى، وهو ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة بخلاف الربا فإنه نفيضه تماماً.

ولا شك أن التعامل بالربا يعتبر فوق ما ذكرنا تعطيلاً للمال الذي ينبغي أن يستغل في رفع الإنتاج، وتشغيل العاملين وهو ربح بلا مقابل، وبلا مبرر يقتضيه.

الموبقة الخامسة: أكل مال اليتيم وهو لا يقل جرماً عن أكل الربا، بل هو أشد منه وأفظع؛ لأن الله – عز وجل – شدد الوعيد فيه فقال عز شأنه: 

{ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا }.

إن مال اليتيم هو "نار" تحرق كل من يمد إليه يداً خائنة، أو يدسه في بطن شرهة، فمن أكل منه احترق به في الدنيا، وصلى به عذاب جهنم في الآخرة.

وحتى لا يقدم أحد على ارتكاب هذا الظلم الأثيم، مهد لهذا الوعيد بوعيد آخر فقال جل شأنه قبل هذه الآية المتقدمة:

{ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا }.

فليرعوا حق الله إذن، وليخشوه في هؤلاء اليتامى الذين في أيديهم، وليصونوهم ويصونوا أموالهم، وليعاملوهم كما يرجون أن يعامل أبناؤهم من بعدهم.

وأشد الناس خشية لله تعالى وخوفاً من أكل أموال اليتامى أصحاب النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ولا سيما بعد أن نزل ما نزل في التحذير من أكل شيء من أموالهم عدواناً وظلماً.

وخير ما يؤدي لليتيم من إحسان إليه وبر به، هو أن يربى تربية طيبة، تبلغ به مبلغ الكمال والرشد، حتى يستقل بشئون نفسه، ويتولى رعاية أموره، وتلك هي الأمانة التي جعلها الله في عنق من يقومون على اليتامي من أولياء وأوصياء، فإذا قصروا فيها كان حسابهم عليها بين يدي الله على قدر ما قصروا.

الموبقة السادسة: التولي يوم الزحف، وهو كبيرة من الكبائر إلا إذا كان القصد منه التحيز إلى فئة من المسلمين ليستعينوا بهم على الكر للقتال، أو كان القرار خدعة لجلب العدو إلى مكان يتمكن فيه من دحره وهزيمته.

فالثبات في ميدان القتال من أعظم الواجبات وهو شرف المؤمن وبرهان صدقه مع الله تبارك وتعالى.

والفرار جبن وخور، وإيذاء للمسلمين وخيانة لهم، فإنه يحدث في الصفوف الفرقة، ويفت في العزائم ويضعف الهمم، ويشجع العدو على الإغارة على من ثبت من المسلمين، بل كثيراً ما يكون الفرار وبالاً على الفارين، فقد يكون سبباً في قتلهم شر قتلة، فيموتون كما يموت الجبناء ليس لهم في الدنيا ذكر، وليس لهم في الآخرة من نصيب إلا اللعنة وعذاب النار.

ولقد كان أصحاب النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – من أعظم الناس صبراً وجلداً في مواطن الجهاد، وكان الاستشهاد عندهم هو الأمل المنشود والعز المنتظر، لما علموا من فضله وعظيم ثوابه. وقد كان شعارهم (احرص على الموت توهب لك الحياة).

الموبقة السابعة: قذف المحصنات.
وهي كبيرة من أعظم الكبائر جرماً، وأشدها خطراً، وأعظمها ضرراً على المجتمع المسلم الذي يتميز عن سائر المجتمعات بالطهر والنبل، والخلق الفاضل، والسلوك الحميد.

والمراد بالمحصنات هنا العفيفات، ورميهن معناه اتهامهن بالزنا وهن غافلات عن ذلك بعيدات عنه كل البعد.

ومعنى لعنوا: طردوا من رحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة.

وفي ذلك أبلغ ردع لأولئك الذين يحوضون في أعراض الناس بألسنتهم ويحبون أن تشيع الفاحشة في المجتمع المسلم.

وقذف المحصنين كقذف المحصنات إجماعاً وإنما جاء النص في الحديث على المحصنات دون المحصنين لأن قذف النساء أكثر من قذف الرجال وأكثر ضرراً، وأشد خطراً وأسوأ عاقبة.

فالمرأة يضيرها كثيراً ما يقال فيها ويضير زوجها وأولادها وأسرتها وقبيلتها بخلاف الرجل؛ فإن تضرره بالقذف أقل. وهذا أمر لا يحتاج إلى بيان.
والقذف يقارب الزنا في الإثم؛ ولهذا كان حده الجلد.

فإن هذه الوصية الجامعة قد وضعتنا على طريق الخير والهدى وجنبتنا مواطن الشر والردى، وسمت بنا عن الرذائل كلها على الجملة؛ فإن هذه الموبقات السبع هي أمهات الكبائر وينبوع الرذائل، من اجتنبها فقد سلم من الآفات التي تفتك بالقلوب وتذهب نورها، وتقضي على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وتحبط الأعمال الصالحة بالغة ما بلغت.