لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ

لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ

عَنْ عُمَرَ بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: 

"لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّمَا أَنَا عَبْد، فَقُولوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ"

كان النبي صلى الله عليه وسلم متألقاً في أخلاقه العلية، ومتلألئاً في شمائله السنية، مكتملاً في خصاله الذاتية، معصوماً من جميع ما يعاب به الناس في الخَلقِ والخُلُق. لقد أثنى الله عليه في كتابه العزيز ثناء ما بعده ثناء، ورفع من شأنه في الأولين والآخرين، فقال جل شأنه: 

{ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ }

(سورة القلم: 4)

أي: وإنك على وجه الخصوص لعلى خُلُق عظيم فاق خلُقُ جميع الخَلق. وقد أكد ذلك بأبلغ أدوات التوكيد، وهي كاف الخطاب الدالة على التخصيص، و (إن) و (اللام)، و (على) الدالة على الاستعلاء والتمكن، وتنكير (خُلُق) للمبالغة في التعميم والتعظيم، ووصف (الخُلُق) بالعظمة، ومهما مدحه المادحون فلن يصلوا لشيء ذي بال مما مدحه الله به.

وصدق البوصيري حيث يقول في الهمزية:

كيف ترقى رقيـك الأنبياء        يـا سمـــــاء ما طاولتـها سمـــاء

لم يسـاووك في عـــــلاك      وقد حال سنا منك دونهم وسنــاء

إنما مثلـوا صفاتـك للناس     كمــا مثـــل النجــــوم المـــاء

فالماء يبين لنا لمعان النجوم         فنحسبها في المـاء وهي في السماء.

وسيد الأخلاق كلها هو التواضع؛ ولهذا ذكره الله في أول صفات عباده فقال في سورة الفرقان: 

{ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا }

(سورة الفرقان: 63)

والمعنى: يمشون على الأرض بين الناس في تواضع وحلم وأناة، وإذا خاطبهم الجاهل بحالهم أو الجاهل بأمور دينه، أو الجاهل بعواقب الأمور – قالوا له قولاً فيه سلم وعفو وأدب. والمتواضع إنسان تتمثل فيه الإنسانية كلها في أسمى مظاهرها، وأرقى معانيها. تواضع تكن كالنجم لاح لناظر على صفحات الماء وهو رفيع ولا تك كالدخان يعلـو بنفســـه على طبقـات الجو وهو وضيع

ومن فرط تواضعه صلى الله عليه وسلم وكماله فيه أنه كان ينهي أصحابه عن المبالغة في تعظيمه إلى الحد الذي يرفعونه إلى ما لا يرتفع به؛ لأنه إنما يرتفع إلى الله بقدر تواضعه لله، ويرتفع شأنه بين الناس بقدر تواضعه للناس.

وقد وردت أحاديث كثيرة تدل على أنه كان يعتبر نفسه واحداً منهم يشاركهم آلامهم وآمالهم، ويسهم معهم بنصيب وافر في أعمال السلم والحرب، ويتحمل من الأعباء ما يتحملون وأكثر مما يتحملون.

وفي هذا الحديث ينهاهم عن أخطر أنواع الإطراء فيقول: 

"لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ" 

أي لا تقولوا في مثل ما قال النصارى في عيسى ابن مريم تقصدون بذلك مدحي والثناء علي، فأنا عبد الله ورسوله، فقولوا ذلك، ولا تقولوا قولاً يتعارض مع هاتين الصفتين – العبودية والرسالة وهما أعظم الصفات على الإطلاق. فالعبودية وظيفة الخلق أجمعين، والرسالة اصطفاء لمن شاء الله من عباده المخلصين. والله واحد لا شريك له ولا ولد، له الكمال المطل والتنزيه التام، فلا ينبغي أن يقال إلا ما أمر الله بقوله. فلا تكونوا كالنصارى فإنهم قد ضلوا سواء السبيل، ورفعوا عيسى ابن مريم إلى ما ليس له بمقام، فوضعوه من حيث أرادوا أن يرفعوه، وهو بريء مما قالوه فيه ونسبوه إليه.

وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلوا شيئاً من ذلك، وإنما حاول بعضهم أن يبال في تعظيمه صلى الله عليه وسلم بنحو ما كانت تفعله العامة بملوكهم، فخشى عليهم أن تؤدي بهم هذه المبالغة إلى الخروج عن العقيدة الصحيحة شيئاً فشيئاً حتى يبالغوا أيضاً في تعظيم أئمتهم وخلفائهم، فيجعلون أقوالهم نصوصاً شرعية ملزمة، وأفعالهم سنة متبعةً، ويعتقدون فيهم العصمة – كما فعل الشيعة – فيضلون مثل ضلال اليهود والنصارى، والذين قال الله فيهم: 

{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ }

(سورة التوبة 31)

ومعنى { أَرْبَابًا }: قدوة. فأطاعوهم طاعة عمياء، وبهذه الطاعة المبالغ فيها كأنهم رفعوها إلى مصاف الآلهة، فهم لم يقولوا إنهم آلهة ولكنهم زعموا أن عيسى هو الله أو هو ابن الله على اختلاف فيما بينهم.

ويؤخذ من هذا الحديث أن حب النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان فرضاً علينا لا يحملنا على أن نبالغ في إطرائه إلى الحد الذي يخرجه عن بشريته وعبوديته ورسالته، ولا يحملنا أيضاً على أن نأتي بأفعال كان يفعلها الأعاجم مع ملوكهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم عبد رسول ولبس ملكاً متوجاً. حتى ولو كان ملكاً متوجاً لا ينبغي أن نعظمته كما تعظم الأمم ملوكهم، فإن تواضعه الذي هو أساس رفعته يأبى عليه ذلك. كذلك لا ينبغي أن نبالغ في تعظيم العلماء والأولياء والأمراء إلى الحد الذي يخرجنا عن العقيدة الصحيحة بحيث يحملنا تواضعنا للعلماء أن نأخذ أقوالهم قضاي مسلمة من غي تمحيص ولا تحقيق، فذلك لا يعتبر تواضعاً بل هو من باب التقليد المرذول.

ولا يحملنا تواضعنا للأولياء إلى الحد الذي نجعل لهم مع الله في ملكه شأنا فنتوسل بهم إلى الله، أو نذهب إليهم نطلب منهم الدعاء اعتقاداً منا أنهم واسطة بيننا وبين الله وننسى قوله تعالى: 

{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } 

(سورة البقرة: 186)

وإن طلبنا منهم الدعاء وهم أحياء من غير أن نعتقد أنهم واسطة بيننا وبين الله فلا بأس – إن شاء الله. ولا يحملنا تواضعنا للأمراء على مداهنتهم، ونفاقهم، وطاعتهم في معصية الله. والرسول صلى الله عليه وسلم هو المثل الأعلى والأسوة الحسنة، وهو المعلم الأول، بعثه الله هدى ورحمة للعالمين. وسيأتي في أحاديث أخرى كلام مستفيض عن تواضعه صلى الله عليه وسلم وخفض جناحه للمؤمنين كما أمره ربه عز وجل. فصلوت الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.