قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه قال:
"خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا"
فَقَالَ رَجُلٌ : أفي أَكُلُّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ ، ثُمَّ قَالَ ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ".
هذا الحديث درس من الدروس القيمة التي نتعلم منها الأدب مع الله – تبارك وتعالى – ومع رسوله صلى الله عليه وسلم فنقف عند ما حده لنا فلا نتجاوزه، ونلتزم بما أمرنا به ولا نعدوه، ونجيب ما نهانا عنه فلا نقربه، فهو حديث يضع المؤمن على جادة الطريق المستقيم، وينأى به عن محفرات الأمور وسفسافها، ويحذره من التشدد في الدين، والسؤال عما عفا الله عنه ولم يقطع فيه بحل ولا بحرمة، أو لم يحدد للناس فيه حداً ينتهون إليه، ولا زماناً ولا مكاناً لفعله أو تركه.
فما بينه الله عز وجل – في كتابه، أو بينه الرسول – صلى الله عليه وسلم بأقواله وأفعاله ينبغي علينا أن نقف عنده وأن نلزم الطاعة فيه، ولا نتجاوزه إلى غيره ولا نزيد عليه ولا تنقص منه، ولا نسأل عما سكت الله ورسوله عنه، ولكننا نسأل عما غمض علينا فهمه أو احتجنا إلى تفصيل القول فيه على ما سيأتي بيانه قريباً.
قوله صلى الله عليه وسلم:
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ"
خطاب يحمل في طياته الكثير من اللطائف التي استنبطها أولو العلم والنهي.
منها: جلب انتباهم إلى ما سيلقيه عليهم من الأوامر والنواهي، والنصائح والتوجيهات، وتشويقهم إلى ذلك؛ فإنهم كانوا يحبون أن يحدثهم الرسول صلى الله عليه وسلم - بما أوحاه الله إليه من العلم والحكمة، والعظمة والعبرة.
ولا يخفى ما يحمله هذا الخطاب إلى المخاطبين من حب نبوي يفيض بالحنان والرحمة، ويشعرهم بمدى حرصه على ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ولذا كانوا إذا رأوه صعد المنبر سكتوا كان على رءوسهم الطير، واشرأبت أعناقهم إليه، وألقوا إليه السمع والقلب معاً، وحرص كل واحد منهم على حفظ ما يقول، وفهم ما يتضمنه قوله من المعاني والمقاصد؛ ولهذا فتح الله عليهم في القرآن والسنة فتحاً مبيناً، فحفظوا لنا الوحي المنزل كتاباً وسنة، ونقلوه إلينا كما سمعوه بأمانة ليس لها مثيل، فكانوا مصابيح الهدى وأثمة البيان.
وقوله صلى الله عليه وسلم:
"قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا"
أي أوجب عليكم الحج إلى بيته الحرام، ومراد - صلى الله عليه وسلم – بقوله: "عَلَيْكُمُ" المستطيع منهم دون العاجز، اعتماداً على قوله تعالى في سورة آل عمران:
{ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا }
(آل عمران: 97)
والاستطاعة هي القدرة الصحية والمادية على تأديته، وتوفر الأمن في الذهاب والإياب، وعدم وجود الموانع التي تحول بينه وبين تحقيق ذلك حسبما جاء في كتبه الفقه.
وقد فرض الحج في السنة السادسة من الهجرة على الراجح من أقوال العلماء، وقيل بل فرض في السنة التاسعة، وهذا الخلاف مبسوط في كتب السير والحديث والفقه.
ونحن يعنينا هنا أن نكشف عما تضمنه هذا الحديث من جواهر العلم والأدب فلا نخوض في تفصيل الأحكام، ولا في ذكر الخلاف إلا بقدر ما تدعو إليه الحاجة.
واستمع أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – منصتين إلى هذا القول، وفهموه حق الفهم، واطمأنت نفوسهم به، وسعدوا كل السعادة بفرضية الحج، وهم أشد شوقاً إليه من أي وقت مضى ولا سيما المهاجرين من مكة إلى المدينة، فهم سواس بيت الله وحرمه، ويتلوهم في ذلك الأنصار فهم من أشد الناس حباً وتعظيماً لهذا البيت الحرام.
لكن كان في الناس رجل يقال له "الأقرع بن حابس" قال: أفي كل عام يا رسول الله؟. وما كان أغناه عن هذا السؤال لو عرف حدود الأدب، واستفاد من أصحاب النبي صلى الله عليه فاقتدى بهم في ترك ما لا يعنيهم، والتخلي عما يحرجهم أو يكون سبباً في إحراجهم، والتضييق عليهم؛ إذ ربما يكون السؤال سبباً في تحريم شيء كان حلالاً لهم، أو سبباً في إيجاب شيء لم يكن واجباً عليهم.
و "الأقرع بن حابس" كان رجلاً غليظ الطبع، قاسي القلب، أسلم على مضض ولا ندري هل حسن إسلامه أو لا؟ ولكنه بسؤاله هذا قد فتح لنا باباً من أبواب العلم، ولولا أن سأل ما عرفنا هذا الدرس ولا وعيناه.
وقد سكت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجب السائل عما سأل، حتى كرر السؤال عليه ثلاث مرات لعله يسكت فلم يسكت، وأغلب الظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو ظل ساكتا ما سكت الرجل، فأسكته الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:
"لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ"
وقد فهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن الحج قد فرض عليهم في العمر مرة واحدة بالنص بعد فهمهم له من فحوى الخطاب؛ فإن الأمر بالشيء لا يقتضي التكرار كما يقول أكثر علماء الأصول.
ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم:
"ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ"
أي دعوني فلا تسألوني عن شيء حتى أبينه لكم؛ تأدباً مع الله – تبارك وتعالى – ومع رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلل هذا الأمر بقوله:
"هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ"
ولقد كان بنو إسرائيل يشددون على أنفسهم بإيراد الشبهات على أنبيائهم، وإحراجهم بكثرة مسائلهم، وتنطعهم في اختيار الصعب من الأمور وهم أعجز الناس عن القيام بها، فكان ذلك سبباً في هلاكهم، والتشديد عليهم، وعدم العفو عنهم في كثير مما وقع منهم من المعاصي.
وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقي أمته مما وقعت فيه من الأمم السابقة، وقد جاءهم بشريعة غراءً لا عسر فيها ولا حرج، ووقف بهم على محجة بيضاء ليلها كنهارها لا ينحرف عنها إلا هالك.
ويواصل النبي صلى الله عليه وسلم حديثه مع أصحابه الكرام البررة فيقول – صلوات الله وسلامه عليه - :
"فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ"
وهو بيان لقوله تعالى في سورة الحشر:
{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
(سورة الحشر: 7)
أي ما أمركم به الرسول فهو عطاء من ربكم فالزموه، واعلموا به ما استطعتم، وما نهاكم عن فعله فكفوا عنه ولا تقربوه إلا مضطرين؛ فالأمر والنهي في هذا الآية ليس على عمومه وإنما هو مخصص بآيات أخر كقوله تعالى:
{ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا }
(سورة البقرة: 286)
وقوله تعالى:
{ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}
(سورة التغابن: 16)
وقوله جل شأنه:
{ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
(سورة البقرة: 173)
والله ولي التوفيق.