إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ"
هذا الحديث من جوامع كلمه – صلى الله عليه وسلم – جمع فيه خصائص الدين كلها في كلمة واحدة، وبين أنه الغالب لكل من هم أن يغالبه بأي نوع من أنواع المغالبة، ثم أوصى أتباعه بأربع وصايا هن من أمهات التقويم الفردي، والإصلاح الاجتماعي.
أما الكلمة التي بين فيها خصائص الدين كلها فهي اليسر.
وما اليسر؟
إنه يتمثل في رفع الحرج، ودفع المشقة، وقلة التكاليف، وحيوية التشريع ومرونته وعدالته المطلقة، ومساواته التامة في الحقوق العامة، ومراعاته لأحوال الناس في كل زمان ومكان، والتخفيف عنهم بأنواع الرخص المعروفة في الفقه، هذا مع الترغيب في ثواب الله تعالى بمضاعفة الأجر على الأعمال الصالحة، وفتح أبواب التوبة على مصاريعها لكل من أراد أن يتوب إليه – جل شأنه – توبة نصوحاً. إلى آخر ما هنالك مما يدخل تحت هذا المفهوم.
وقد بالغ النبي صلى الله عليه وسلم في التعبير عن يسر الدين فجعله نفس اليسر. فقال: "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ" ولم يقل: " إِنَّ الدِّينَ ذُو يُسْرٌ"؛ كأن اليسر هو الدين، والدين هو اليسر.
ومفهومه أنه من طلب اليسر في غيره فلن يجده، ومن تمسك بالدين وحاول أن يتشدد فيه لأمر ما في نفسه فلن يستطيع أن يسلبه خصائصه المتمثلة في يسره.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:
"وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ"
فهذا القول توكيد للجملة الأولى، وبيان لمضمونها ومفهومها.
والمشادة هي المغالبة بأي نوع من أنواعها، إفراطاً أو تفريطاً.
والمعنى: ولن يغالب هذا الدين أحد كائناً من كان في أي أمر كان مخالفاً له في تشريعاته العامة والخاصة، وفي مبادئه وقيمه إلا غلبه هذا الدين بيسره وسماحته وقوة حجته، وملائمة تشريعاته لجميع شئون الحياة في كل زمان ومكان.
وسيأتي الكلام عن الغلو في الدين في الحديث الذي بعده إن شاء الله تعالى.
وبعد أن وضع النبي صلى الله عليه وسلم هاتين القاعدتين أمر المسلمين بالسداد في القول والعمل، والمقاربة فيها عدم التمكن من السداد، فقال:
"فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا"
أي: الزموا السداد في جميع أمور الدين والدنيا بقدر وسعكم وطاقتكم.
والسداد هو الصدق مع الله، ومع النفس، ومع الناس في الأقوال والأفعال والنيات، وإصابة الحق في جميع الأحوال، والتزام العدل في الأحكام، ووضع الأمور في موضعها من غير قصور أو تقصير.
كل هذه المعاني مرادة بقوله صلى الله عليه وسلم : "فَسَدِّدُوا" وهو تفسير لقوله تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا }
(سورة الأحزاب: 70-71)
فالسداد هو التزام طاعة الله – تعالى – والوفاء بعهده على أكمل وجه بقدر الطاقة البشرية.
ويليه المقاربة في ذلك عند العجز عن السداد بمعناه الأمثل.
وقد يكون معنى المقاربة التوسط في الأمور.
يقال: فلان قارب الهدف، أي انتهى إليه. فيكون التعبير بالمقاربة كناية عن الوصول للهدف من أيسر طريق وهو التزام الوسطية.
والوسطية هي العدل في أسمى صوره، وهي فضيلة بين رذيلتين، الإفراط والتفريط.
وعلى هذا المعنى الثاني يكون السداد والمقاربة متلازمين لا ينفك أحدهما عن الآخر، فيكون المعنى: الزموا السداد والمقاربة في كل شيء، فإن السداد إنما يكون مع الوسطية لا يفارقها ولا تفارقه، فمن خرج عن الوسطية فقد خرج عن السداد.
وهذا المعنى أولى بالقبول لموافقته للقاعدتين المتقدمتين في أول الحديث، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد جمع بينهما بواو العطف المقتضية للتشريك في الحكم، ولو أراد المغايرة لقال:
"فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا"
وقد يقال: إن المعنى الأول أولى بالقبول من الثاني؛ لأن السداد هو المطلوب بالأصالة، والمقاربة مطلوبة عنده، والعجز عنه فجمع الرسول صلى الله عليه وسلم بينهما بواو العطف لاشتراكهما في الأجر، بمعنى أن من عجز عن السداد وأخذ بالمقاربة كان له أجر السداد كاملاً، كمن عجز عن القيام في الصلاة فصلى قاعداً.
والجمع بين القولين حينئذ يكون أولى، وهو كذلك إن شاء الله.
وقوله صلى الله عليه وسلم:
"وَأَبْشِرُوا"
بعد أن قال:
"فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا"
وعد من الله لهم، أجراه على لسانه لمن التزم السداد والمقاربة في أقواله وأفعاله، وكان على الطريق السوي في شأنه كله.
والمعنى: أحضروا في قلوبكم البشرى في عاجل أمركم وآجله، وانتظروها وتعايشوا بها، واطعموا في فضل الله – عز وجل – ولا تيأسوا من روحه إن عجزتم عن شيء كلفتموه؛ فإن الدين يسر.
وهذه البشرى خاصة بالمؤمنين، كما جاء في القرآن الكريم، من ذلك قوله تعالى:
{ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }
(سورة يونس: 62-64)
وقوله صلى الله عليه وسلم:
"وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ"
أي اطلبوا العون من الله تعالى على السداد والمقاربة في أول النهار وآخره وفي الثلث الأخير من الليل؛ لأنها أوقات تذكر العبد بأول عمره وآخره ودخوله في قبره، فأول النهار شبابه، وآخر النهار شيخوخته، وظلمة الليل قبره.
والْغَدْوَةِ – بفتح الغين – أول النهار وهي وقت نشاط يجد العبد فيه نفسه مقبلاً على العمل، فليكن أول عمل يبدأ به – طلب الاستعانة من ربه بركعتين يصليها.
وَالرَّوْحَةِ: آخر النهار، وهو وقت نشاط أيضاً، وفيه صلاة العصر وهي صلاة مشهودة، وفيه ينظر العبد إلى الشمس وقد آذنت بالغروب، فيذكر بهذا المظهر أفول عمره وقربه من لقاء ربه عز وجل.
وأما آخر الليل فهو من أعظم الأوقات قدراً، فيه يتجلى الله على عباده ويقول: هل من مستغفر فأغفر له، هل من تائب فأتوب عليه، هل من كذا هل من كذا، حتى يطلع الفجر.
ويؤخذ من هذا الحديث:
1- أن الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله لعباده وفطرهم عليه وتعبدهم به، ولن يقبل من أحد ديناً سواه.
{ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
(سورة آل عمران: 85)
2- وأن هذا الدين هو اليسر كله، قائماً بالقسط لا تزيغ به الأهواء، لا يضل من اعتصم به، ولا يجد المتحدي به قدرة على تحديه، ولا يستطيع أحد كائناً من كان أن يلبس فيه أو يزيد أو ينقص، فهو محجة بيضاء ليلها كنهارها، وهو كامل في عقائده وتسريعاته، يرفض التعديل والتقويم لأنه القيم الذي يهدي إلى الرشد ويدعو إلى الخير، ويسمو بالنفوس البشرية إلى أسمى آيات الكمال الخلقي والروحي.
{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا }
(سورة المائدة: 3 )
{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }
(سورة الروم: 30)
3- وأنه جدير بأن يلزم الناس فيه السداد والمقاربة؛ لأنه دين الهداية ومنهج الحياة بين الله لهم فيه ما يحل لهم، وما يحرم عليهم، ولبى جميع رغباتهم التي تسعدهم في قواعد كلية يندرج تحتها كل ما جد ويجد من شئون الحياة. فما من شيء يحتاجون إليه إلا شمله تشريعه ووسعه بيانه.
قال تعالى:
{ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ }
(سورة النحل: 89)
4- وما على المسلم إلا ن يستبشر خيراً إن اتقى الله حق تقاته، وجاهد في الله حق جهاده بقدر طاقته ووسعه، فإن الله - وجل – قد وعد المؤمنين وعداً حسناً في كتابه العزيز وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ولن يخلف الله وعده.
5- أن لربنا في أيام دهرن نفحات، وأن هناك أوقاتاً يكون الدعاء فيها أقرب للإجابة كالأوقات التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، فعلى العبد أن يتعرض لهذه النفحات في مثل هذه الأوقات.
6- والعبد عاجز كل العجز عن تحقيق مراده فليستعن بالله على ذلك، ولا يعتمد على قوته وجهده، فمهما كانت عزيمته صلبة وهمته عالية فإنه لا غنى له البتة عن طلب العون من الذي خلقه وسواه، وأمده بالقوة والعزم والهمة؛ إذ ل قدرة لمخلوق مع قدرته، ولا يقع في ملكه إلا ما يريد.
إذا لم يكن عون من الله للفتى
فأول ما يجني عليه اجتهاده
نسأل الله العلي القدير أن يوفقنا لطاعته ويهدينا سواء السبيل.