أَمَرَنَا رَسُولُ الله بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ

أَمَرَنَا رَسُولُ الله بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ

عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:

أَمَرَنَا رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ، أَمَرَنَا بعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَإَفشِاء السَّلَامِ، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ، وَنَهَانَا عَنْ خَواتيمِ الذَّهَبِ عَنْ الشُّربِ في الْفِضَّةِ – أو قال: آنِيَةِ الْفِضَّةِ – وعَنْ المياثر، وَالْقَسِّيِّ وَعَنْ لِبس الْحَرِيرِ، وَالدِّيبَاجِ وَالْإِسْتَبْرَقِ"

وفي هذا الحديث سبعة أشياء أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بفعلها؛ لأنها من باب البر والصلة والتأدب، والتراحم، والتعاون على البر والتقوى.

وهذه السبعة بعض من كل، فما أكثر الآداب التي حثنا النبي صلى لله عليه وسلم التحلي بها، ولك الراوي يكرم ما حفظ منها، أو أنه يذكر العدد ليحفظ تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من أوامره ونواهيه ووصاياه.

وهذا السبعة تدخل في أبواب المروءات والمجاملات، وتدخل في باب العبادات أيضاً، ولها في النفوس تأثير عميق، فهي تعبر عن الحب والرحمة والمودة والتآخي بين الناس.

أول هذه الأوامر: عيادة المريض، وهي سنة مستحبة ولا سيما إذا كان المريض قريباً، أو جاراً، أو كان من العلماء، أو من الصالحين، أو كان يعاني من مرض شديد يخشى أن يموت فيه، فإنه حينئذ تكون الزيارة آكد، بل تكون واجبة شرعاً وعرفاً.

ومن قصر في مثل هذا الواجب لا يكون مسلماً حقاً؛ لأنه قد ترك أمراً فيه تنفيس للكربات، وفيه التواصي بالصبر مع المواساة في المصيبة والمجادلة التي لا ينساها المسلم لأخيه، إلى غير ذلك من الفوائد التي تعود على الزائر والمزور.

وقد وردت في فضل عيادة المريض أحاديث كثيرة منها:

(أ) ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: 

"حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ : رَدُّ السَّلَامِ ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ"

وقوله: 

"حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ"

يفيد أن التقصير في هذه الأمور ظلم من المسلم لأخيه المسلم، وأن في أدائها نوعاً من الوفاء يجزى عليه المسلم أحسن الجزاء في الدنيا وفي الآخرة.

(ب) وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أيضا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: 

"إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي؟، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي؟ قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي. يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي؟ قَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ. أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي"

وهذا الحديث حديث بليغ مؤثر يفيد أن الدعاء عند المريض مجاب، وأن الرحمة تنزل على من يعوده، وكذلك من سقى الناس أو أطعمهم فدعا لنفسه عند السقيا والإطعام، أو دعي له.

وفيه عتاب من الله تبارك وتعالى لمن قصر في قضاء حوائج الناس، وعيادة المرضى.

(جـ) وروى أحمد والبزار وابن حبان عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 

"عُودُوا الْمَرْضَى وَاتَّبِعُوا الْجَنَائِزَ تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ"

(د) وروى ابن حبان في صحيحه عن أيضاً أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم: 

"خمس من عملهم في يوم كتبه الله من أهل الجنة: من عاد مريضاً، وشهد جنازة، وصام يوماً، وراح إلى الجمعة، وأعتق رقبة"

(هـ) وروى ابن خزيمة في صحيحة عن أبي هريرة – رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

"مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا فقَالَ: مَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا قَالَ: مَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا: قَالَ فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا اجْتَمَعَت هذه الخِصَال قَط فِي رجل إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ".

(و) وروى ابن ماجه في سننه – واللفظ له – والترمذي وحسنه عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 

"مِن عَادَ مَرِيضًا نَادَاهُ مُنَادٍ مِن السماء: طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ وَتَبَوَّأْتَ مِنْ الْجَنَّةِ مَنْزِلًا"

(ز) وروى مالك بلاغاً وأحمد في مسنده والبزار وابن حبان بأسانيد صحيحة عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

"مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَزَلْ يَخُوضُ فِي الرَّحْمَةِ حَتَّى يَجْلِسَ فَإِذَا جَلَسَ اغْتَمَسَ فِيهَا"

هذا، ولزيارة المريض آداب كثيرة أفردها العلماء بالتصنيف كابن حجر الهيثمي، نذكر لك هنا شيئاً منها، فنقول:

(أ) أن يزور المسلم المريض في الأوقات التي يغلب على ظنه أنه مهيأ فيها لاستقبال الزائرين، فهذا أدب معروف لا يحتاج إلى بيان، والمسلم كيس فطن.

ويستحب أن يسأل: هل فلان يسمح للناس بزيارته أم لا؟.

(ب) وإذا زار المسلم أخاه المريض واساه، ووعظه بكلام رقيق رفيق، وأعطاه الأمل في الشفاء، ودعى له به.

روى أبو داود والترمذي وحسنه، والنسائي وغيرهم عن ابن عباس – رضي الله عنهما – عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: 

"مِنْ عَاد مَرِيضًا لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ فَيَقُولُ عنده سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يَشْفِيَكَ - إِلَّا عَافَاهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ"

(جـ) ويستحب للزائر أن يطلب من المريض أن يدعو له.

فقد روى ابن ماجه عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال: قال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

"إِذَا دَخَلْتُ عَلَى مَرِيضٍ فَمُرْهُ يَدْعُو لَكَ فَإِنَّ دُعَاءَهُ كَدُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ"

(د) ويستحب أن يقوم الزائر بخدمة المريض إن احتاج إلى ذلك، وأن يسأله يستمهله ليستأنس به، وعلم صدق ذلك منه

(هـ) ويستحب ألا يكلفه شيئاً من طعام أو شراب، لكن لو جيء له بشيء، وعلم أنه لو لم يتناوله حزن المريض تناوله تطييباً لنفسه، ولا يسقط ذلك من أجره شيئاً، (والأمور بمقاصدها)، و (الأعمال بالنيات).

(و) وينبغي عليه أن يذكره بخير إذا خرج من عنده، ولا يخبر بما رآه من سوء، فإن ذلك يحبط أجره.

(ز) هذا ويكره الزائر أن يذكر للمريض ضعفه، واصفرار وجهه، وما يراه عليه من أثر المرض؛ فإن ذلك يدخل في قلب اليأس، والذعر، ويتمنى المريض ألا يعوده بعد ذلك هو ولا أمثاله.

وقد كان بعض الصالحين إذا زاره إنسان في مرضه، وذكر له  ما يراه عليه من أثر المرض يقول له: لا تعدني بعد اليوم. روى هذا عن الشافعي وغيره.

(ح) ويكره أن ينظر في بيته يميناً وشمالاً؛ فإن في ذلك كشفاً للعورات، وإساءة لرب المنزل، ولا سيما إذا كان في البيت نساء، أو فيه ما يحرج المريض من رؤيته.

(ط) ويكره أن يذكر لأهل المريض ما رآه على مريضهم من الضعف والنحول، فهم أدرى بذلك منه، وكلامه حينئذ يكون ثقيلاً عليهم، فيبغضونه ويكرهون زيارته.

(ي) هذا ويكره للمسلم أن يقول في نفسه فلان لم يزرني في مرضي فلا أزوره في مرضه، فهذا هو الإمعة الذي يقول: أنا مع الناس، إن أحسنوا أحسنت، وإن أساءوا أسات.

نعم لا يقول في نفسه ذلك، بل يذكر ما قاله علي – رضي الله عنه أحسن لمن أساء إليك تكن أعبد الناس.

والمؤمن يعامل ربه ولا ينظر إلى الناس أحسنوا إليه أم أساءوا.

ثانياً: اتباع الجنائز:

فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما عَن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 

"مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ عليها فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَها حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ قَالَ مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ"

وفي رواية البخاري: 

"مَنْ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيَفْرُغَ مِنْ دَفْنِهَا فَإِنَّه يَرْجِعُ مِنْ الْأَجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ"

وروى مسلم في صحيحه عَن عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنهما  

أَنَّهُ كَانَ قَاعِدًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ – رضي الله عنهما إِذْ طَلَعَ خَبَّابٌ صَاحِبُ الْمَقْصُورَةِ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ؟ يَقُول أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ خَرَجَ مَعَ جَنَازَةٍ مِنْ بَيْتِهَا وَصَلَّى عَلَيْهَا وَاتبعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ مِنْ أَجْرٍ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُد،ٍ وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُحُدٍ" فَأَرْسَلَ ابْنُ عُمَرَ خَبَّابًا إِلَى عَائِشَةَ – رضي الله عنها - يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فَيُخْبِرُهُ بِمَا قَالَتْ وَأَخَذَ ابْنُ عُمَرَ قَبْضَةً مِنْ حَصَى الْمَسْجِدِ يُقَلِّبُهَا فِي يَدِهِ حَتَّى رَجَعَ، فَقَالَ: قَالَتْ: عَائِشَةُ: صَدَقَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَضَرَبَ ابْنُ عُمَرَ بِالْحَصَى الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ الْأَرْضَ ثُمَّ قَالَ لَقَدْ فَرَّطْنَا فِي قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ"

ولا شك أن تشييع الجنازة يذكر بالآخرة، ويزهد في الدنيا، ويدفع إلى العمل الصالح والتخفف من المعاصي، وفيه أيضا طمأنية وسكينة وانشراح صدر يجد ذلك من كان يؤمن بالله واليوم الآخر إيماناً قوياً.

ثالثاً: تشميت العاطس فهو سنة من آكد السنن، وقيل هو فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين.

ولا يكون كذلك إلا لمن حمد الله – عز وجل – أما إذا لم يحمد العاطس ربه – تبارك وتعالى – فلا يسن تشميته.

فقد روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك – رضي الله عنه.. قال: 

عَطَسَ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا وَلَمْ يُشَمِّتْ الْآخَرَ فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: "هَذَا حَمِدَ اللَّهَ، هَذَا لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ"

وكذلك الكافر لا يجب تشميته ولا يسن؛ لأنه لا يستحق الدعاء له بالرحمة، ولكن يجوز أن يقال له ولأمثاله: يهديكم الله، ونحو ذلك.

أخرج أبو داود – وصححه الحاكم – من حديث أبي موسى الأشعري قال: كانت اليهود يتعاطسون عند النبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقول: يرحمكم الله، فكان يقول: "يهديكم الله ويصلح بالكم".

ويشمت العاطس مرتين أو ثلاثة، فإن عطس الرابعة قيل له: أمن مزكوم ونحو ذلك.

وروى مسلم في صحيحه وأبو داود والترمذي عن سلمة بن الأكوع: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم، وعطس عنده رجل، فقال له: يرحمك الله، ثم عطس أخرى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألرجل مزكوم؟".

وهناك أمور أخرى لا يسن التشميت فيها، منها: أن يكون العاطس على الخلاء، أو من سمع عطاسه، فإنه لا يشمته إلا بعد أن يفرغ كل منهما، بأن يقول العاطس بعد فراغه: الحمد لله، فيقول له أخوه: يرحمك الله.

ومنها إذا كان الخطيب على المنبر، فإن أخاه لا يشمته إلا بعد الفراغ من الخطبة.

رابعاً: إجابة الداعي إلى وليمة أو عقيقة ونحوهما فإن من العلماء ممن أوجبها بشرط ألا يكون فيها محرم، ومنهم من قال هي سنة من السنن، بشرط أن يكون وقته يسمح بذلك، وإلا قدم اعتذاراً مهذباً، ولا ينبغي أن يعد بالحضور وهو لا يريده، فإنه بذلك يكون مخلفاً للوعد، متسبباً في قطيعة الداعي له وغضبه منه، وخلف الوعد كما تعلم علامة من علامات النفاق.

ومن العلماء من يرى أن إجابة الداعي فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين.

والراجح عندي – والله أعلم – أن إجابة الدعوة واجبة ما لم يكن فيها ما يخالف الشرع ولم يكن هناك عذر.

لما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

"إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى وَلِيمَةٍ فَلْيَأْتِهَا"

ولما رواه البخاري أيضاً عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: 

"مَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ"

خامساً: رد السلام فواجب على من ألقى عليه السلام، بدليل هذا الحديث، ولقوله تعالى في سورة النساء: 

{ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا }

(سورة النساء: 86)

وإلقاء السلام سنة مؤكدة لا ينبغي تركها، لما فيها من توثيق الأواصر بين المسلمين، وتعميق جذور الحب بينهم، وإدخال الطمأنينة على الخائف منهم، فالسلام معناه الأمان.

روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

"لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَوَ لَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ؟ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ"

وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل إلقاء السلام ورده، منها ما رواه الترمذي في سننه عن أبي يوسف عبد الله بن سلام – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: 

"يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصِلُوا الْأَرْحَامَ وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ"

وروى مالك في الموطأ بإسناد صحيح عن الطفيل بن أبي بن كعب أنه كان يأتي عبد الله بن عمر فيغدو معه إلى السوق، قال: فإذا غدونا إلى السوق، لم يمر عبد الله على سقاط ولا صاحب بيعة، ولا مسكين ولا أحد إلا سلم عليه، قال الطفيل: فجئت عبد الله بن عمر يوماً، فاستتبعني إلى السوق، فقلت له: ما تصنع بالسوق، وأنت لا تقف على البيع، ولا تسأل عن السلع، ولا تسوم بها، ولا تجلس في مجالس السوق؟ وأقول: أجلس بنا ههنا نتحدث، فقال: يا أبا بطن – وكان الطفيل ذا بطن – إنما تغدو من أجل السلام، فتسلم على من لقيناه.

والسلام اسم من أسماء الله الحسنى، فهو الذي يبعث الأمان في نفس المؤمنين، وينشر بينهم الحب والوئام، وهو الذي يأمن الخلق عنده من الظلم، فإنه الحكم العدل، الذي حرم الظلم على نفسه، وجعله بين عباده محرما.

وعلى المسلم إذا لقى أخاه في الطريق، أو في أي مكان أن يقول له: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ, ولو قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته – كان أفضل.

وعلى من ألقِىَ عليه السلام أن يقول: وعليكم السلام، ليكون اسم الله (السلام) في البدء وفي الختام، ليشعر المسلم أن الله هو الأول والآخر.

ولو رد عليه بقوله: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته – كان أكمل؛ لقوله تعالى في الآية السابقة: 

{ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا }

روى أبو داود والترمذي عن عمران بن الحصين – رضي الله عنهما – قال: 

"جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فردَّ عليه ثم جلس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عشر، ثم جاء آخر، فقال: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ رَحْمَةُ اللَّهِ، فردَّ عيه فجلس، فقال: عشرون، ثم جاء آخرفقال: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فردَّ عليه فجلس، فقال: ثلاثون"

ويكره كراهة تنزيه أن يقول المسلم: عليك السلام، لما روى أبو داود والترمذي عن أبي جري الهجيمي – رضي الله عنه – قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: عليك السلام يا رسول الله، قال: 

"لَا تَقُلْ عَلَيْكَ السَّلَامُ؛ فَإِنَّ عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَوْتَى".

قال ابن علان في دليل الفالحين. يستحب أن يقول المبتدئ بالسلام: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ"، فيأتي بضمير الجمع، وإن كان المسلم عليه واحداً، ويقول المجيب: وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فيأتي بواو العطف في قوله وعليكم. أ. هـ.

لعل الحكمة في السلام بلفظ الجمع المبالغة في التعظيم والتكريم، والإيناس وإدخال الأمن والسرور عليه.

لعل الحكمة من ذلك أيضاً إلقاء السلام عليه وعلى من معه من الملائكة، وكذلك الرد بلفظ الجمع يفيد ذلك.

والحكمة في التلفظ بالواو أن يكون بهذا العطف قد سلم على نفسه وعلى أخيه، وأعلن أنه قبل منه السلام، فيكون المعنى: علي وعليكم السلام، والله أعلم.

وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: 

"فإن عليك السلام، تحية الموتى" 

فهو فيم يبدو لي إخبار عما كان يجري على السنة العرب في الجاهلية، فإنهم كانوا يسلمون على ملوكهم وشيوخهم بهذه الصيغة، وجرى عليه الشعراء كثيراً.

قال الشاعر:

عليك سلام الله قيس بن عاصم                  ورحمته ما شاء أن يترحما

وليس ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم من باب التشريع، بل هو من باب الإخبار عن الواقع.

والشرع يستحب البدء باسم السلام على الأحياء والأموات، فيقال للأموات: السلام عليكم: ولا يقال: عليك السلام، أو عليكم السلام؛ فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم قال في تحية الموتى: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين".

(وهنا نكتة لطيفة بديعة ينبغي التيقظ لها، هي أن السلام شرع على الأحياء والأموات بتقديم اسمه على المسلم عليهم؛ لأنه دعاء بخير، والأحسن تقديم المدعو به، إذا كان خيراً، كقوله تعالى: 

{ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ }

(سورة هود: 73)

وتأخيره إذا كان شراً كقوله تعالى لإبليس: 

{ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي }

(سورة ص: 78)

وسر ذلك – والله أعلم – أن الخير لما كان محبوباً قدم المدعو به وهو الرحمة، وقد المدعو عليه في الشر – وهو اللعنة – للإيذان بتخصيصه بذلك، فكأنه قيل لإبليس: عليك وحدك لعنتي لا شريك لم فيها غيرك.

هذا وللسلام آداب ينبغي مراعاتها، منها:

(أ) أن يحرص كل مسلم على أن يكون هو البادئ بالسلام، لقوله صلى الله عليه وسلم كما في سنن أبي داود والترمذي عن أبي أمامة: 

"إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِاللَّهِ مَنْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ"

وفي رواية أخرى للترمذي عن أبي أمامة  - رضي الله عنه - : قيل يا رسول الله، الرجلان يلتقيان أيهما يبدأ بالسلام، قال: "أولاهما بالله تعالى".

(ب) لكن يستحب أن يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير، والصغير على الكبير، كما جاء في كتب السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(ج) ويستحب إعادة السلام على من تكرر لقاؤه ولو على قرب، بأن دخل ثم خرج ثم عاد في الحال، أو حال بينهما حائل كشجرة ونحوها.

فقد روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: 

"إِذَا لَقِيَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ فَإِنْ حَالَتْ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ أَوْ جِدَارٌ ... أَوْ حَجَرٌ ثُمَّ لَقِيَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ"

(د) ويستحب المسلم إذا دخل بيته أن يسلم على من في البيت، فإن لم يكن فيه أحد سلم على نفسه، لقوله تعالى: 

{ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً }

(سورة النور: 61)

وقد روى الترمذي في سننه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:  

قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا بُنَيَّ إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ يَكُنْ بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ"

(هـ) ويستحب السلام على الصبيان لتعويدهم على إلقائه ورده، ولغرس نوازع الرجولة فيهم.

روى البخاري ومسلم أن أنس بن مالك – رضي الله عنه - : "مرَّ على صبيان فسلم عليهم، وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله".

(و) ويستحب السلام على المحارم من النساء، وعلى الأجنبية أيضاً، إذا لم يخش منها الفتنة، ولهن أن يسلمن على الرجال بهذا الشرط.

فقد روى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد – رضي الله عنه – قال: 

"كَانَتْ فينا امرأة – وفي رواية: كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ - تَأْخُذُ مِنْ أُصُولِ السِّلْقِ فَتَطْرَحُهُ فِي قِدْرٍ وَتُكَرْكِرُ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ، فَإِذَا صَلَّيْنَا الْجُمُعَةَ انْصَرَفْنَا وَنُسَلِّمُ عَلَيْهَا فَتُقَدِّمُهُ إِلَيْنَا"

وروى أبو داود عن أسماء بنت يزيد – رضي الله عنها – قالت: "مر علينا النبي صلى الله عليه وسلم في نسوة فسلم علينا"

وفي رواية للترمذي: 

"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمًا وَعُصْبَةٌ مِنْ النِّسَاءِ قُعُودٌ فَأَلْوَى بِيَدِهِ بِالتَّسْلِيمِ"

(ز) واختلف في السلام على الكافر على قولين، والأصح الجواز؛ لعموم قوله تعالى: 

{ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا }

(سورة النساء: 86)

ولعموم قوله تعالى أيضا: 

{ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }

(سورة الممتحنة: 8)

وقد رجع القرطبي الجواز على المنع عند تفسير قوله تعالى في سورة مريم: 

{ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي}

(سورة مريم: 47)

فإذا ألقى عليك السلام كافر، فقل: وعليكم السلام، واقصد بذلك الملائكة الذين معه.

ويجوز أن نبدأهم بالسلام أيضاً لما أخرجه الطبري من طريق ابن عيينة قال: "يجوز ابتداء الكافر بالسلام، لقوله تعالى: 

{ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ... الآية } 

وقول إبراهيم – عليه السلام – لأبيه: سلام عليك".

وروى البيهقي أن أبا أمامة – رضي الله عنه – كان يسلم على كل من لقيه، فسئل عن ذلك، فقال: إن الله تعالى جعل السلام تحية لأمتنا أمانا لأهل ذمتنا.

وقيل: يسلم المسلم على الكافر لو كان له حاجة عنده، فإن لم يكن له حاجة كره.

والأحاديث الواردة في عدم الرد عليهم إلا بقوله: وعليكم، محمولة على أن اليهود كانوا إذا حيوا مسلما لم يقولوا له: السلام عليكم، ولكن يقولون: السام عليكم.

أخرج مالك في الموطأ عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 

"إِنَّ الْيَهُودَ إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدُهُمْ فَإِنَّمَا يَقُولُ السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَقُلْ: عَلَيْكَ"

وأخرج البزار وابن حبان في صحيحه عن أنس: مر يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فسلم عليهم فرد عليه أصحابه، فقال: "هل تدرون ما قال" قالوا نعلم سلم علينا، قال: "فإنه قال: السام عليكم، أي تسامون دينكم ردوه" أي قولوا: وعليكم، يعني بمثل ما قلتم.

ومعنى تسامون دينكم: تخسرون، وقيل السام: الموت.

وسماحة الإسلام تقتضي أن يعامل أهل الكتاب بالحلم، واللين، والحكمة إذا عاشوا بيننا على العهد، ولم يغدروا بنا.

وقد أباح الله لنا أن نأكل ذبائحهم، وأن نتزوج من نسائهم، فقال جل شأنه في سورة المائدة: 

{ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }

(سورة المائدة: 5)

وعليك أيها الأخ المسلم أن تسأل نفسك، لو أن رجلاً من أهل الكتاب دعاك إلى طعامه، ورحب بك وحياك، وأدخلك بيته وأكرم مثواك، وألقى عليك السلام فماذا تقول له وهو يعلم أن هناك حديثاً يمنع المسلم من رد السلام على اليهود والنصارى، فماذا يكون حاله معك بعد هذا؟ إنه سينقبض صدره ويضيق بك ذرعاً، بالإسلام أيضاً، وينفر منه ومن معتنقيه.

وكيف لو كان هذا الداعي إلى طعامه أباً أو أخاً لزوجتك الكتابية، أفكنت تفعل معه هذا باسم الإسلام؟.

أظن أنك معي في أن هذا العمل يتنافى مع البر والإقساط للذين أمرالله بهما في الآية السابقة من سورة الممتحنة، والآية التي في سورة النساء.

فأي حديث ورد في النهي عن إلقاء السلام ورده على أهل الكتاب فهو محمول على من كان يقول: السام عليكم، أو هو محمول على من بيننا وبينه عداوة، كيهود المدينة، فإنهم كانوا يتربصون بالمسلمين، ويدبرون لهم المكائد، ويضمرون لهم السوء ليلاً ونهاراً، فكان على المسلمين أن يعاملوهم بالمثل.

فكن – يا أيها المسلم – سمحاً مع المسلمين وغيرهم فأنت عنوان دينك، وأنت الدال عليه والداعي إليه بخلقك الفاضل وسلوكك النبيل.

سادساً: نصر المظلوم فهو من أوجب الواجبات وأعظمها أجراً عند الله عز وجل، وهو مروءة لا يتخلى عنها المؤمن ما دام فيه عرق ينبض، وهو التعاون على البر والتقوى في أسمى مظاهره، وأرقى معانيه، وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض.

وقد وردت في نصر المظلوم أحاديث كثيرة منها:

(أ) ما وراه البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 

"انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ننصَرْهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ ننْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ تاخذ فوق يديه" 

 أي تَضع يَديك فَوق يَديه، وَتَمنعهُ مِن ضَرب أَخِيهِ، وفي رواية للترمذي قال: 

"تَكُفُهُ عَنْ الظُّلْمِ فَذَاكَ نَصْرُكَ إِيَّاهُ"

(ب) وروى البخاري أيضاً عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: 

"إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ"

 أي إن المؤمن عون لأخيه المؤمن في السراء والضراء، فهو لبنة في بناء شامخ بعضه آخذ بحجر بعض، لا تستغني لبنة عن الأخرى، فهي مشدودة برباط واحد لا فرق بين لبنة عن الأخرى.

فالمؤمنون إخوة جمعتهم كلمة الإيمان، ووحدت صفوفهم قبلتهم فكانوا جميعاً رجلاً واحداً على من يعاديهم، وقلباً واحداً يشعر كل بشعور أخيه، ويحس تجاهه بالألفة الروحية فيجتمعون على حب الله تعالى، ويتفرقون عليه، فلابد أن ينصر المؤمن أخاه في جميع المواطن على من يعاديه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وينصره – كذلك – على من ظلمه من المؤمنين أنفسهم.

قال تعالى في سورة الحجرات: 

{ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }

(الحجرات:9-10)

وسيأتي الكلام عن نصر المظلوم بأوسع من ذلك في حديث آخر إن شاء الله تعالى.

سابعاً قوله: "وإبرار المقسم" فمعناه: الاستجابة له فيما طلبه وأقسم عليه إن كان ما طلبه في قدرته، ولم يكن محرماً، ولا منافياً للمروءة، وكان المقيسم رجلاً صالحاً، وإلا لم يلزمه البر يقسمه لا على سبيل الوجوب ولا على سبيل الندب.

والمسلم مطواع لأخيه المسلم، يكون عند حسن ظنه دائماً، لا يخيب رجاءه، ويخذله، ولا يحقره، ولا يحرجه، ولا يجد منه ما ينقبض له صدره، على أنه لا ينبغي للمسلم أن يحلف بالله على كل شيء يريد فعله أو تركه، فإن ذلك يعد استخفافاً بالمقسم به – تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً – وحاشانا أن نضل بعد الهدى، أو نجعل الله عرضة لإيماننا، فقد نهانا الله عن ذلك بقوله في سورة البقرة: 

{ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }

(البقرة: 224)

أي لا تعرضوا اسم الله للحلف به، أن تبروا بوعد، أو توفوا بعهد، أو تتقوا شيئاً كنتم تفعلونه، أو أن تصلحوا بين متخاصمين.

أو المعنى: لا تجعلوا الله عرضة لإيمانكم لئلا تبروا بأقربائكم وأصدقائكم وجيرانكم، أو ألا تتقوا شيئاً أمرتم باتقانه وتركه، أو ألا تصلحوا بين الناس اتقاء لشرهم، وابتعاداً عنهم، فإن ذلك لا يليق بالمسلم.

قال ابن كثير في تفسير الآية: 

{لَا تَجْعَلُوا} 

أيمانكم بالله تعالى مانعة لكم من البروصلة الرحم إذا حلفتم على تركها، كقوله تعالى: 

{ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

(سورة النور: 22)

فالاستمرار على اليمين آثم لصاحبها من الخروج منها بالتكفير كما قال البخاري. أ.هـ.

فقد روى عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: 

"وَاللَّهِ لَأَنْ يَلَجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي افترَضَ اللَّهُ عليه"

ومعنى يلج بيميه: يتمادى في الأمر الذي حلف عليه ولو تبين له خطؤه.

وروى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: 

"إِنِّي وَاللَّهِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا"


وقد حلف أبو بكر – رضي الله عنه – إلا ينفق على مسطح بن أثاثة؛ لأنه اشترك مع المروجين لحديث الإفك، فنهاه الله عز وجل أن يتمادى في الأمر الذي حلف عليه، ورغبه في فعل الخير، والعفو والصفح، ووعده على ذلك بالمغفرة والرحمة، فأعاد الإنفاق عليه، وكفر عن يمينه، وفي شأنه أنزل الله الآية السابقة وهو قوله تعالى: 

{ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ } 

أي: ولا يحلف أولو التفضل والإنعام والسعة في المال أن يمنعوا رفدهم عن ذوي القربى والمساكين، والمهاجرين في سبيل الله.

وكان مسطح بن أثاثه ابن خالته، وقد عطف الله قلبه عليه بعد أن أنزل الله براءة أم المؤمنين عائشة وصفوان بن المعطل، وطابت النفوس المؤمنة، واستقرت وتاب الله على من كان تكلم من المؤمنين في ذلك، وأقيم الحد على من أقيم عليه.

وبعد أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بهذه الأوامر السبع نهاهم عن سبع:

1- فقد نهاهم عن خواتيم الذهب، والنهي للرجال دون النساء، لما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد عن علي – رضي الله عنه – 

 إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ حَرِيرًا فَجَعَلَهُ فِي يَمِينِهِ وَأَخَذَ ذَهَبًا فَجَعَلَهُ فِي شِمَالِهِ ثُمَّ رفع بهما يديه فَقَالَ: "إِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حل لإناثهم"

وقد حرم الله لبس الذهب على الرجال لئلا يتشبهوا بالنساء، ولما فيه من خيلاء وعجب.

2- ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الشرب في آنية الفضة لما فيها من إسراف وبذخ، ولأن الفضة إنما جعلت أثماناً للمشروبات لا لتجعل أوان يشرب فيها، ولأن في استعمالها كسر لقلوب الفقراء.

وكذلك أواني الذهب، بل هي أشد حرمة، فلا يجوز للرجال ولا للنساء أن يشربوا في أواني الذهب والفضة للعلة التي ذكرناها.

3- ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن المياثر – جمع ميثرة، بكسر الميم – ومعناه اللين، وهي فراش تضعه النساء لأزواجهن على السروج، يصنعنه من الحرير وقيل كن يصنعنه من جلود السباع، والأصح الأول.

ولا يخفى ما في اتخاذ هذه المياثر من الخيلاء، وحب الظهور، والإسلام حريص على أن يتواضع المسلم لله في جميع مظاهره، ويتواضع للناس في غير منقصة ولا مذلة.

4- ونهى عن "القسي" – بتشديد السين وكسرها وتشديد الياء – وهي: ثياب مضلعة بالحرير، أو هي كما يقول العيني في عمدة القارئ يشرح صحيح البخاري: ثياب من كتان مخلوط بحرير يؤتي بها من مصر، نسبت إلى قرية على ساحل البحر قريباً من