سَلْ اللَّهَ الْعَافِيَةَ
عَنْ أبي الفضل الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ – رضي الله عنه – قَالَ:
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللَّهَ تَعَالَى، قَالَ "سَلْ اللَّهَ الْعَافِيَةَ". فَمَكَثْتُ أَيَّامًا، ثُمَّ جِئْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللَّهَ تَعَالَى، قَالَ لِي: "يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ سَلوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ".
كان العباس بن عبد المطلب – رضي الله عنه – رجلاً طيب القلب، رقيق المشاعر، يحب الناس ويحبونه، وكان – رضي الله عنه – يحب رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قبل إسلامه، ويحنو عليه، ويحسن إليه، ويدفع عنه الأذى، وقد حضر معه بيعة العقبة الثانية وهو على شركه، ووثق عهده مع الأوس والخزرج، وقال لهم: إن كنتم توفون له فدوتكم وإلا فدعوه، فإن له في قومه منعة.
وقد كان – رضي الله عنه – من أجود قريش كفا بعد رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –، وكان الرسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يحبه ويواسيه ويدعو له، وكان يقول:
"مَنْ آذَى الْعَبَّاس فَقَدْ آذَانِي، فَإِنَّمَا الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ".
وقد أسلم العباس بعد غزوة بدر، وحسن إسلامه وصار من أجلاء الصحابة – رضوان الله عليهم أجمعين - .
وكان العباس يتميز بالحلم والعلم، ويحب الدعاء، ويسأل عن أحسنه وأفضله؛ ليلهج به في ليله ونهاره، فسأل رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عن أجوده وأنفعه، فقال: يا رسول الله، علمني شيئاً أسأله الله تعالى.
أي علمني ما ينفعني من خيري الدنيا والآخرة أطلبه من ربي طلباً جازماً ألح فيه.
فقال له النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –:
"سَلْ اللَّهَ الْعَافِيَةَ"
فأخذها العباس وانصرف ثم جاءه بعد أيام يُعيد عليه السؤال نفسه، وكأنه يريد شيئاً فوق العافية أو أفضل منها، وهو يعلم معنى العافية ولا يجهله، ولكنه الطمع في المزيد من فضل الله الواسع.
فيقول له النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –
"يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ سَلوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ".
والخطاب هنا للتعظيم والتفخيم، والمدح والثناء، ولهذا ناسب أن يقول له: "سَلوا" بصيغة الجمع.
والأمر له ولسائر المؤمنين والمؤمنات سواء كانت الصيغة بالإفراد كما جاء أولاً، أو بالجمع كما جاء ثانياً.
والعافية: هي رفع البلاء، ورفع الأذى، والوقاية مما لا تحمد عواقبه، والشفاء من كل داءٍ، ويقال للصحة: عافية.
وقال ابن منظور في لسان العرب: يقال: عافاه الله وأعفاه، أي وَهَبَ له العافية من العلل والبلايا.
والعافية والمعافاة بمعنى واحد، وقيل المعافاة: هي أن يُعَافِيَكَ الله من الناس ويُعَافِيهُم منك، أي يُغنِيَكَ عنهم ويُغنِيَهُم عنك، ويصرف أذاهم عنك، وأذاك عنهم.
ومن هذا يتبين لنا أن العافية ما كانت في شيء إلا زانته، وما نزعت من شيء إلا شانته؛ فهي جماع الخير كله، ليس وراءها من مطلب.
فإذا سأل العبد ربه العافى فقد سأله العفو والمغفرة، ويتبع ذلك الجنة قطعاً، إذا ما قُبلَ دعاؤه.
ولهذا لم يمده النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بشيء آخر فوق الوصية الأولى، ليعلم أنها أعظم وصية أهديت إليه وإلى سائر المؤمنين والمؤمنات.
وقد كان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يسأل الله العافية في أمره كله، في دنياه وآخرته.
روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنهما –
قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً مِنْ الْفِرَاشِ، فَالْتَمَسْتُهُ، فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ، وَهُوَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ".
وفي استعاذته – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – برضا الله من سخطه، وبمعافاته من عقوبته – طلب للرضا والمعافاة بأبلغ وجه وأرقى أسلوب، فكأنه قال: أسألك الرضا والمعافاة، وأعوذ بك من ضدهما.
وفي قوله: "وَأَعُوذُ بِكَ مِنكَ" إظهار للأحدية ونفي الضد من كل وجه.
ثم أثنى على الله بما هو أهله بأعظم ما يكون الثناء، إذ اعترف بالعجز التام عن إحصاء الثناء عليه كما أثنى هو – جل شأنه – على نفسه؛ إذ الكمال المطلق له، والحمد كله من صفاته، فهو جل شأنه مستغن بحمده لذاته عن حمد سائر مخلوقاته.