ذَاكَ شَيْطَانٌ فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْهُ
عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي يَلْبِسُهَا عَلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خَنْزَبٌ فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْهُ، وَاتْفِلْ عَلَى يَسَارِكَ ثَلَاثًا". قَالَ فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ عَنِّي.
كان أصحاب النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يعرفون كيد الشيطان حق المعرفة ويحذرونه على أنفسهم أشد الحذر ويستعيذون بالله منه في جميع أوقاتهم كما أوصاهم ربهم – عز وجل – ونبيهم – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –، ولكن مع ذلك كان يجد بعضهم منه لمماً في صلاته وفي غيرها من العبادات، فلا يستطيع دفع وساوسه وهواجسه بسهولة، فيأتي إلى طبيب الأطباء محمد – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ليصف له الدواء الناجع لهذا الداء حتى لا يستفحل خطره فيعوقه عن اغتنام الأوقات في الذكر والتسبيح وقراءة القرآن وقيام الليل وما إلى ذلك من العبادات وأنواع الطاعات.
وعثمان بن أبي العاص واحد من أولئك الذين كانوا يعانون من هذه الوساوس الشيطانية التي تقطع عليهم صلاتهم وتشغل قلوبهم عن الخشوع فيها.
إنه يجيء إلى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يشكو إليه ما يجد في صلاته وقراءته من التلبيس والتدليس وإلقاء الشبهات كما هو شأن الشيطان مع من بدأ السير إلى الله بخطوات واسعة وقلب منيب، فيوصيه الرسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بهذه الوصية، وهي وحي من الله تعالى لا يشك في نفعها مؤمن.
فيقول له: "ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خَنْزَبٌ" بكسر الخاء والزاي وفتحهما عرفه باسمه حتى يضعه في اعتباره حين يأتيه، فيكون أشد حرصاً على التوقي من شره.
قال عليه الصلاة والسلام: "فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْهُ"
أي إذا شعرت بإنه قد وسوس لك بشي من أمور الدنيا ليشغلك عن صلاتك وقراءتك فاستغث بالله عز وجل واعتصم به، فإنه يعيذك منه ويجيرك من شره.
قال عليه الصلاة والسلام: "وَاتْفِلْ عَلَى يَسَارِكَ ثَلَاثًا" قال عثمان بن أبي العاص: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني. أي كررت ذلك الفعل، فتعوذت بالله كلما خطر لي وتفلت على يساري ثلاثاً، هذا هو معناه؛ إذ لا يكفي التعوذ منه مرة واحدة؛ فالشيطان لا يزال يوسوس لابن آدم حتى يلبس عليه دينه، ويقطع عليه الطريق إلى الله عز وجل، فإما أن يستحوذ عليه فينسيه ذكر الله فيكون من حزبه، وإما أن يستطيع المسلم الفرار منه إلى الله عز وجل فينجو من شره فيكون من حزب الله، جعلنا الله وإياكم من حزبه تبارك وتعالى.
ولا يستطيع العبد أن يتخلص من الشيطان إلا إذا اعتصم بالله واحتمى بحماة وأكثر من ذكره في جميع أوقاته وأحواله.
ومن الذكر التعوذ بالله عز وجل.
ولذلك يحاول الشيطان جاهداً أن يصد الناس عن ذكر الله حتى يملك قلوبهم فيصنع بها ما يشاء. قال تعالى:
{ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
(سورة المجادلة: 19).
أي الخاسرون في الدنيا والآخرة ومرتبط بنعيم الجنة، بل إن أهل الجنة يتعمون بذكر الله أعظم مما يجدونه فيها من ألوان النعيم الأخرى.
فإن قال قائل: لماذا يتفل على يساره ثلاثاً، وهل ذلك يجوز في الصلاة؟
أقول: في التفل على اليسار فوائد ثلاثة:
الأولى: إخزاء الشيطان وهو من أهل الشمال، فإذا تفل المسلم على شماله عند شعوره بوسوسة الشيطان فقد صده عن قلبه، وطرده شر طردة في ذلة وهوان.
ويفعل ذلك ثلاثاً مبالغة في إذلاله ودحره.
الثانية: طرد ما ألقاه الشيطان في قلبه من الوساوس فإن من كره شيئاً تفله ومجه حتى ولو كان شيئاً معنوياً.
وكان العرب إذا كرهوا شيئاً قالوا: أف تف.
الثالثة: أن التفل دواء ناجع لهذا الداء العضال أجراه الله تعالى على لسان نبيه، فمن أخذه بثقة شفاه الله وعافاه وعصمه منه حتى يلقاه.