كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي فَقَالَ:
"كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ".
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ.
الدنيا مزرعة للآخرة ومعبر إليها، فإن جعلها المسلم كذلك فدنياه مباركة طيبة، وعمره فيها عمر عطائي، طال أم قصر.
وكلما طال كان خيراً؛ فقد جاء في الحديث: "خَيْرٌكم مَنْ طَالَ أَجَله وَحَسُنَ عَمَلُهُ، وَشَركُم مَنْ طَالَ أَجلُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ".
وخير الناس من جعل الآخرة مبلغ همه ومنتهى علمه وأمله، وسعى لها سعيها وهو مؤمن، وعاش فيها عيشة من ليس له فيها رغبة، وجعلها بُلغة تقربه من الجنة وتبعده عن النار، وكان المال في نظره ظلاً زائداً وعارية مستردة، وشجرة يستظل بها إلى حين، واعتبر نفسه في سفر دائم وارتحال لا ينقطع، فهو إلى الموت سائر إن اليوم وإن غداً – وإن غداً لناظره قريب. والموت أقرب إليه من شراك نعله.
والعاقل من لا ينسى الموت في زحمة الحياة؛ فنسيان الموت يضله عن الطريق إلى الله، ويعوقه عن بلوغ مراده من دنياه وآخرته.
الغربة في الدنيا تعني أمرين:
الأمر الأول: ألا يغيب عن ذهنه أنه راجع إلى ربه كما يرجع الغريب إلى بلده، مع الفارق بين رجوع ورجوع، فيسأل نفسه بماذا يرجع إلى ربه، أبعمل صالح يقربه منه ويدنيه من حضرة قدسه ويجعله محشوراً مع عباده المكرمين في يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه، أم يرجع إليه بغير ذلك فيكون مصيره مصير من هو على شاكلته ومن الفجار الأشقياء؟.
الأمر الثاني: الزهد فيها، وهو مبني على قصر الأمل في بقائها، والتعفف عن شهواتها وملذاتها، والقناعة منها بما يسد الرمق ويستر العورة، والشكر وافر النعم، وإنفاق المال في وجوه الخير، وإنفاق العمر فيما ينفع في الدارين معاً؛ وذلك لأن الدين يأمرنا أن نأخذ حظنا من الدنيا بالطرق المشروعة وبقدر الكفاية من غير إفراط في الطلب ولا تفريط.
والمؤمن الحق من يعيش في هذه الدنيا بين الخوف والرجاء، ويأخذ منها قدر كفايته من حله، ويعد نفسه ليوم لا تجزي نفس عن نفس شيئاً، ولا يأمن للدنيا إن ضحكت له؛ فإنها سرعان ما تبكيه وتشقيه.