قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ

قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ

عن سفيان بن عبدالله رضي الله عنه – قال:

قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ قَالَ: "قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ" 

إذا حَسُنَ إسلام العبد كان أحرص على فهم أمور دينه أكثر من حرصه على فهم شئون دنياه؛ لعلمه أن الدين هو عصمة أمره، ومنهج حياته في الدنيا، وسبيل نجاته في الآخرة.

فهذا الصحابي الجليل قد أسلم بعد غزوة حنين، وحسن إسلامه، وعزم على أن يقيم الدين على أصول ثابتة لا يعييه فهمها، ولا يثقل عليه حفظها، فتوجه إلى من تفجرت من قلبه على لسانه ينابيع الحكمة يسأله أن يقول له في شريعة الإسلام قولاً موجزاً بليغاً، جامعاً لأصولها وفروعها، يجعله منهاجاً يسير عليه، ونوراً يهتدي به في الطريق إلى الله عز وجل، لا يحتاج بعده إلى أن يسأل في دينه أحداً سواه، وهو يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوتى جوامع الكلم فلا يشق عليه أن يجمع له الدين في كلمات تحفظ ولا تنسى.

فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عند حسن ظنه، فأسدى إليه هذه النصيحة الغالية في أبلغ أسلوب، وأعذب بيان، فقال: "قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ". أي قل بقلبك ولسانك كلما ذكرت الله عز وجل بأسمائه الحسنى، وأوصافه الكمالية، أو حاول الشيطان أن يوسوس لك بما يتنافى مع الإيمان بوحدانية الله في ذاته وصفاته، وأفعاله: آمنت بالله، طرداً لهذه الوساوس الشيطانية، وكفاً عن التمادي فيها، فسفيان بن عبدالله راوي الحديث رجل مؤمن، فينبغي أن يحمل قوله صلى الله عليه وسلم "قل آمنت" على ما ذكرناه، فهو كقوله تعالى في سورة الحديد:

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ }

(سورة الحديد: 28)

والمعنى : يا من آمنتم اتقوا الله، وجددوا إيمانكم دائماً كلما طرأ عليه ما يعكر صفوه من هواجس النفس أو وساوس الشيطان، وغير ذلك.

فعلى المؤمن أن يتعهد قلبه بالتنقية والتطهير، والإصلاح والتقويم، ويشرك لسانه مع قلبه في التعبير عن إيمانه بالله، وإخلاصه له في الطاعة، فاللسان ترجمان القلب يفصح عما فيه غالباً، ويقر بما يقر به، ويأتي العمل مصدقاً لهما.

لذا قالوا في تعريف الإيمان: هو اعتقاد بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح.

والعقيدة الصحيحة لا تستقر إلا في قلب طاهر نظيف، خال من شوائب الشرك، ونزعات الهوى، وظلمة التقليد الأعمى.

قال تعالى:

{ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ }

(سورة الشعراء: 88: 89). 

وقد أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يعبر عن سلامة قلبه  - ولا قلب أسلم من قلبه – بقوله – جل شأنه – في سورة الأنعام:

{ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِى رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ }

(سورة الأنعام: 162-164)

أي قل بقلبك ولسانك: أن صلاتي وعباداتي كلها وجميع أعمالي في حياتي خالصة لله، وجميع ما يكون لي بعد موتي من الحسنات الجارية لله بتقديره وتوفيقه، وقل للمشركين الذين لا يؤمنون بوحدانيتي: أغير الله الواحد الأحد أطلب ربًّا، وأعبده، وهو رب كل شيء، والملك كله له، وناصية العباد جميعاً بيده؟!

واللسان يقر بما في القلب ويشهد له أو عليه، فإذا أقر اللسان بما أقر به القلب من الوحدانية، وما يجب لها من صفات التنزيل والكمال كان الإيمان دعوى قوية ينقصها البرهان الدال على صدقها، وهو العمل الصالح، ولذلك قُرن بالإيمان في كثير من الآيات حتى اعتبره المعتزلة جزءاً من الإيمان، أي ركناً من أركانه لا يتم إلا به.

وأيما كان فإن صحة الإيمان متوقفة على العمل، أي سواء اعتبرنا العمل ركناً من أركانه، أو شرطاً من شروط صحته.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "ثُمَّ اسْتَقِمْ" معناه هيئ نفسك بعد تجديد إيمانك دائماً للعمل الصالح؛ لكي يكون برهاناً لك على صحة الاعتقاد بالقلب، والإقرار باللسان.

وقد أتى بالحرف "ثُمَّ" للدلالة على الترتيب مع التراخي النسبي، فإن الاستقامة تبنى على الإيمان، وتلازمه ولا تفارفه.

وقد شرط الله في صحة العمل وقبوله أن يكون مصاحباً للإيمان مستظلاً بظله معتمداً عليه.

قال تعالى في سورة النحل:

{ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }

(سورة النحل: 97)

والإنسان حين يخلو بنفسه ويحاسبها على تقصيرها، ويجدد إيمانه بربه عز وجل، وبعد هذه المحاسبة يفكر في معالجة التقصير الذي بدر منه، وبعد العدة لقضاء ما فاته من أعمال الخير، ويشمر عن ساعد الجد في طلب مرضاة الله عز وجل، وهذا يستغرق وقتاً ما بعد تجديد الإيمان، لهذا حسن العطف بــ "ثم" في هذا الحديث.

 

والاستقامة معناها تقويم النفس بالأخلاق، وتوجيهها إلى الصراط السوي الذي وضعه الله لعباده وأمرهم أن يتبعوه في جميع أقوالهم وأفعالهم، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

 

قال تعالى:

{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }

(سورة الأنعام: 153) 

والسبل التي نهانا الله عن اتباعها هي سبل الشيطان؛ فإنه يصد الناس عن هذا الصراط المستقيم إلى سبل الغواية والضلال، كما صرحت بذلك الآيات الكثيرة، منها قوله تعالى حكاية عنه:

{ قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَأَتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ }

(سورة الأعراف: 16-17).

وهذا الحديث قد اشتمل على خصال الخير كلها، وأحاط بجميع شعب الإيمان، فكان وصية الوصايا كلها، فكل الوصايا القرآنية, والنبوية تندرج تحتها، وتنبع منها، وتصب فيها.

وهذه الوصية قبس من الوصايا التي أوصاه الله بها في سورة هود، وسورة الشورى.

قال تعالى في سورة هود :

{ فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

(سورة هود: 112).

قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع القرآن آية كانت أشد ولا أشق عليه من هذه الآية.

وقال في سورة الشورى:

{ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَآ أَنْزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ }

(سورة الشورى: 15)

 

أي فلذلك التفرق الذي حدث لأهل الكتاب ومن على شاكلاتهم أمرناك أن تدعو الناس إلى الحنيفية السمحة مستقيماً على الطريقة المثلى التي بيناها لك، والصراط المستقيم الذي هديناك إليه، ولا تلتفت إلى أهل الكتاب ولا تقف طويلاً معهم فهم أهل شُبه، وضلالات، وأهواء جامحة، وقل بقلبك ولسانك آمنت بما أنزل الله من كتاب سماوي سابق لهذا الكتاب الذي بين يدي.

وأمرت لأدعوكم إلى دين الله، بالعدل والإحسان، لا أكرهكم عليه، ولا أجادلكم إلا بالتي هي أحسن.

{ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } أي أن الرب الذي أدعوكم إليه ليس ربي وحدي، حتى يكون لي مصلحة خاصة في دعوتكم إليه، فهو سبحانه ربكم كما هو ربي. وفي هذا تعريض باليهود الذين يجعلون الله سبحانه وتعالى ربًّا لهم وحدهم، ويؤثرهم بما عنده من خير وإحسان، فيسمونه رب إسرائيل، ويسمونه رب الجنود، ويجعلونه قائداً لجيشهم في الحرب، كما تصرح بذلك التوراة، التي في أيديهم، في أكثر من موضع منها.

وقوله تعالى: { لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } أي كل محاسب على عمله مجزى به إن خيراً فخير وإن شراً فشر.


{ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } أي لا جدال ولا مناظرة بيننا وبينكم فإن الحق قد ظهر واشتهر.

{ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } فهو  الذي يجمعنا ليوم الجمع فنرجع إليه فيحاسبنا على ما قدمنا وما أخرنا.


وهذه الآية قد جمعت أصول الدين كلها فقد اشتملت على عشرة أوامر كل أمر منها أصل تندرج تحته أحكام لا تنحصر.

وقبل أن نفارق هذا الحديث إلى غيره ينبغي أن ننبه كل مؤمن يبتغي الحكمة أن ينشدها في مظانها عند الحكماء المشهود لهم بالعلم والمعرفة والصلاح والتقى، فرب كلمة تصدر من قلوبهم على أفواههم يكون فيها خير الدنيا والآخرة.

ولكي يتعلم الحكمة من أفواه الحكماء عليه أن يجالسهم ويتبع آثارهم، ويتفقد أحوالهم مع الله ومع الناس, ويصغى إلى أقوالهم، وينتبه إلى ما يصدر عنهم من إشارات تقوم مقام العبارات، فالعلماء والحكماء يحيون القلوب بالعلم والحكمة كما يحيي الله الأرض بالمطر.

تَحْيَا بهم كل أرضٍ ينزلون بها       كأنهم في بقاع الأرض أمطار

ويستفاد من هذا الحديث فوق ما ذكرناه أن العلم أبواب مقفلة مفاتيحها الأسئلة، لهذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه عن كل ما غمض عليهم فهمه، في أدب جم وأسلوب كريم، فيجيبهم عن كل ما سألوا بحب وكرامة، ولا يعيب على أحد سأله عن شيء، كما يفعل بعض علمائنا اليوم، بل كان يجعل من السؤال التافه منطلقاً إلى باب مهم من أبواب العلم.

ويستفاد أيضاً من هذا الحديث أن يكون المسئول حكيماً في فهمه للسؤال وفي الإجابة عنه، فلا يكون جوابه بعيداً عن المطلوب في السؤال، ولا يكون قاصراً مخلاً لا يكتفي السائل به، ولا طويلاً مملاً ينفر منه، ويتحرى المسئول حاجة السائل إلى السؤال فلا يمهله ولا يتبرم منه، ويتعرف على حاله – في الثقافة والفهم – فيخاطبه على قدر عقله ووعيه، فهذه هي البلاغة في سموها وعراقتها، فهي كما يقول أهلها: مراعاة المتكلم بكلامه مقتضى حال المخاطب، والله ولي التوفيق.