ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ

ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ

عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي – رضي الله عنه – قال: 

"جَاءَ رَجلٌ إِلّى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللَّهُ وَأَحَبَّنِي النَّاسُ فَقَالَ: ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عند النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاس". 

هذا الحديث يعده العلماء أصلاً من أصول الدين، وفلكاً من أفلاكه التي يدور عليه، ويعتبرونه ركيزة من ركائز الإيمان القوي واليقين الصادق؛ لأنه حديث جامع لكل ما ينبغي على المسلم أن يتحراه في طلب الدنيا وابتغاء الآخرة على النحو الذي يرضاه الله عز وجل، فهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم.

ولقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أشد الناس حرصاً على معرفة ما يقربهم إلى الله تعالى، وينجيهم من عذابه، ويدفع عنهم معرة الدنيا ومذلة الآخرة.

فهذا هو سهل بن سعد رضي الله عنهما – وهو من آخر الصحابة موتاً، على ما قيل – يخبر أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جاء يسأله عن عمل إذا عمله أحبه الله، وأحبه الناس، فيأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بالزهد في الدنيا، والزهد فيما في أيدي الناس.

وسؤال الرجل يدل على رجاحة عقله، واتساع مداركه، وحسن خلقه، وعظيم حبه لله، وحبه لبني جنسه، بدليل أنه سأل عما يجلب له حب الناس بعد أن سأله عما يقربه من الله ويرفع منزلته عنده، فهو رجل يجب الناس ويسعى إلى ما يجعلهم يحبونه، لعلمه أن الله – عز وجل – يحب من أحبه عباده، وأن العباد لا يحبون إلا من أطاع الله فيهم، وتعاون معهم على البر والتقوى؛ لذا كان حريصاً على أن يدله الرسول صلى الله عليه وسلم على أفضل الأعمال التي تحقق له هذا المقصد النبيل، فيفوز بحب الله وحب الناس من أيسر طريق. فيجيبه النبي صلى الله عليه وسلم بإجابة شافية كافية، تحفظ ولا تنسى، يتناقلها الناس جيلاً بعد جيل بوصفها حكمة من أعظم الحكم وأقومها في صلاح الدين والدنيا.

فقوله صلى الله عليه وسلم: 

"ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ" 

أي خذ منها كفايتك، وارض بما قسم الله لك، واقتصر على الحلال الطيب، ولا تحزن على ما فاتك منها، ولا تفرح كثيراً بما أتاك من حطامها.

فالزهد هو طلب الزهيد من الدنيا، والزهيد هو الشيء القليل الذي يعرض الناس عنه احتقاراً له، إما لقلته وإما لدناءته وخسته، هذا هو التعريف اللغوي للزهد ومنه يفهم التعريف الشرعي الذي ذكرناه بالمعنى.

وقد ذكر العلماء للزهد تعريفات، كل تعريف منها يمثل وجهة نظر صاحبه فيها.

(أ) فمنهم من قال: هو أخذ قدر الضرورة من الحلال المتيقن حله.

(ب) ومنهم من قال: هو ترك الحرام، والاقتصار على الحلال الخالص.

(ج) ومنهم من قال: هو ترك المتشابهات خوفاً من الوقوع في المحرمات.

(د) ومنهم من قال: هو ترك ما لا بأس فيه خوفاً من الوقوع فيما فيه بأس.

والزهد في الحقيقة أنواع، والناس فيه على أربع درجات، وهي التي عرفت عند الإمام الغزالي وغيره بدرجات الورع.

الدرجة الأولى: درجة العدول, وهم الذين يكتفون بالحلال الخالص، ويتركون الحرام قليله وكثيره، ويسمى هذا النوع من الزهد بزهد العدول، فهم لا يحرمون أنفسهم من التمتع بالحلال الطيب قلَّ أو كثر، فينفق كل واحد منهم على نفسه وعلى عياله بقدر وسعه، فيلبس أحسن الثياب، ويأكل أشهى الطعام، ويسكن في أوسع البيوت إن تيسر له ذلك ما دام حلالاً, بناء على ما جاء في الكتاب والسنة.

أما الكتاب فقوله تعالى في سورة الأعراف: 

{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }

(سورة الأعراف: 32- 33)

وأما السنة فمنها ما رواه النسائي عن أبي الأحوص عن أبيه قال:

 دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فرآني سيئ الهيئة فقال: "ألك من شيء؟" قلت: نعم، من كل المال قد آتاني الله تعالى، فقال: "إذا كان لك مال فليُرَ عليك" أي: فلير عليك أثره من التجمل بالثياب وغيرها مما يحل للرجال أن يتجملوا به.

وروي الحاكم والترمذي عن ابن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: 

"إِنَّ اللَّهَ يُحِبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ". 

وروى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: 

"لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ" فقال رجل: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً قَالَ إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ".

الدرجة الثانية من درجات الزهد: هي زهد الصالحين، وهم الذين يتركون المتشابهات استبراء لدينهم وأعراضهم، فهم أرقى من العدول مقاماً عند الله وعند الناس.

فهم يعملون بنصح رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: 

"فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ".

الدرجة الثالثة: درجة المتقين، وهم الذين يتركون الجائزات إن خافوا أن تؤدي بهم إلى ارتكاب المحرمات أو الشبهات.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 

"لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ دَرجة المُتَيقن حَتى يَدع مَا لَا بأس به مخافة ما به بأس".

وروى أن أبا بكر – رضي الله عنه – قال: "كنا نترك سبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في باب واحد من الحرام"، أي: كنا ولا زلنا.

الدرجة الرابعة: درجة الصديقين، وهم الذين يكتفون من دنياهم بما يسد الرمق، ويستر العورة، ويجعلون الآخرة مبلغ همهم، ومنتهى بغيتهم، والزهد بمعنى الاقتصار على القدر الضروري من الحلال الطيب مستحب وليس بواجب.

والزهد بمعنى ترك الحرام والاقتصار على الحلال واجب من أعظم الواجبات.

والزهد بمعنى ترك المتشابهات قريب من الواجب وليس بواجب إلا عند الخوف الشديد من أن يؤدي الوقوع فيه إلى الوقوع في المحرم، فعندئذ يكون بمنزلة الواجب.

وقد قسم الغزالي في كتاب الإحياء المتشابه إلى ثلاثة أقسام:

الأول: ما كان إلى الحل أقرب، وهو مباح وتركه أولى.

والثاني: ما كان إلى الحرمة أقرب، وهو مكروه فعله، وتشتد الكراهة كلما اشتد قربه من الحرام.

الثالث: ما كان وسطاً بين الحل والتحريم بحيث لم يكن هناك دليل يرجح أحدهما على الآخر، فهذا مباح مكروه، وإن كان التوقف فيه أولى.

والزهد يأخذ بمعنى ترك الجائزات خوفاً من الوقوع في المحرمات فهو مباح وليس بمستحب إلا عند العارفين.. وهم المتقون، كما سبق بيانه.

وأما الزهد بمعنى الاكتفاء بما يسد الرمق، ويستر العورة فهو مقام الخواص لا يجوز لنا أن نحاكيهم فيه لعدم قدرتنا على ذلك، لكن علينا أن ندرب أنفسنا على التقشف والقناعة بالقليل حتى نسلم الطريق إلى الله – تعالى – فننتقل من مقام إلى مقام أرقى منه، لعلنا نتخذ إلى الله سبيلاً، فتصل إلى مرتبة المحبين المقربين بتوفيق الله تعالى.

وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالزهد في الدنيا ورتب عليه محبة الله – عز وجل لأن القرآن الكريم قد رغب فيه، وحض عليه، ورتب عليه من درجات القرب والحب ما يفرح به المؤمنون في الدنيا والآخرة، فكانت هذه الوصية النبوية بياناً لما جاء في القرآن على أبلغ وجه وأكمله.

قال تعالى: 

{ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى }

(سورة الأعلى: 16 -17)

وقال جل شأنه: 

{ فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى }

(سورة النازعات: 37-41)

ومعنى نهي النفس عن الهوى نهاها عما تشتهيه من حطام الدنيا والشهوات العاجلة التي تلهي عن ذكر الله عز وجل.

وقال سبحانه معاتباً المؤمنين في شأن طلب الفداء من أسرى بدر: 

{ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }

(الأنفال: 67-68)

وقال تعالى في قصة قارون: 

{ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ }

(سورة القصص: 79- 80)

وقال في آخر قصته: 

{ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }

(سورة القصص: 83).

وقال جل شأنه: 

{ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا }

(سورة النساء: 77)

قال تعالى: 

{ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ }

(سورة الرعد: 26)

وقال تعالى مخبراً عن مؤمن آل فرعون: 

{ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}

(سورة غافر: 38 – 39)

والأحاديث في ذم الدنيا وحقارتها عند الله عز وجل كثيرة جداً فمنها:

ما جاء في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: 

"مَرَّ بِالسُّوقِ وَالنَّاسُ كَنَفَتَيْهِ فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكٍّ – أي صغير الأذنين – ميت، فتناوله فأخذ بأذنه فقال: "أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟ فَقَالُوا مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ وَمَا نَصْنَعُ بِهِ ؟ قَالَ: "أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟ فقَالُ : "وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ لِأَنَّهُ أَسَكٌّ فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ ، فَقَالَ وَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ".

وفيه أيضاً عن المستورد الفهري عن النبي صلى الله عليه وسلم: 

"مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَاذَا يَرْجِعُ".

وأخرج الترمذي بسند صحيح عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: 

"وَلَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تعدل عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شربة ماء".

وقد كثر كلام الزاهدين من السلف والخلف في تهوين شأن الدنيا فهي كما قيل: كسوق قام ثم انفض، ربح فيه من ربح وخسر فيه من خسر.

أو هي كراحل استظل تحت شجرة ثم تركها وانصرف.

والناس فيها غرباء يعبرونها سريعاً حتى يُخيل لأحدهم بعد موته أنه ما لبث فيها وقتاً يذكر. 

{ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } 

(سورة المؤمنون: 112 – 114)

وما أحسن قول الحسن البصري: (ما من يوم يُصبح العباد فيه إلا ويقول أنا يوم جديد وعلى عملك شهيد، فاغتنمني فإني لا أعود إليك إلى يوم الوعيد).

 وما أحسن قول الشافعي في الحث على هجران الدنيا بالقلب وترك حطامها والاشتغال بما يقرب إلى الله وينفع في الدار الآخرة.

 قال رحمه الله:

ومن يذق الدنيــا فإنــي طعمتها                 وسيـق إلينــا عذبـــها وعذابها

فلم أرها إلا غــروراً وبـــاطلاً                  كما لاح في ظهر الفلاة سرابها

ومــا هي إلا جيفـــة مستحيلة                 عليها كلاب همهـن اجتـذابها

فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلهـا                 وإن تجتــذبها نـــازعتك كلابها

فدع عنك فضلات الأمور فإنها                حرام على نفس التقى ارتكابها

 

وقال آخر:

هي الدنيا تقول بملء فيها                       حذار حذار من بطشي وفتكي

ولا يغــرركم مني ابتسام                        فقولي مضحك والفعــل مبكي

 

فمن محاسن العاقل ألا يغتر بمحاسن الدنيا؛ فإنها ساحرة تزين ظاهرها بمحاسنها وتخفي قبائحها ومساويها في باطنها ليغتر الجاهل بما يرى من ظاهرها، ومثلها كمثل عجوز فبيحة المنظر تخفي وجهها وتلبس أحسن الثياب وتتزين وتتجمل ليفتتن الخلق بها، فإذا كشفوا عنها غطاءها عرفوا حقيقتها وندموا على النظر إليها والاغترار بها.

 والعمرهو رأس مال المرء فإن ضيعه فقد ضيع كل شيء، وهو الوحيد الذي لا عوض عنه ولا إدراك لما فات منه.

 وما لا بــد أن يــأتي قريــب                  ولكن الذي يمضي بعيد

ولست أرى السعادة جمع مال                  ولكن التقى هــو السعيد

وتقوى الله خيــر الزاد زخراً                   وعنــد الله للأتقى مزيد

والدنيا تحمد وتذم، ولكن متى تحمد؟ ومتى تذم؟, والجواب عن هذا السؤال سهل ميسور، فهي تحمد بوصفها مزرعة للآخرة، فإذا ما وفق المسلم لاغتنامها في العبادة والعمل الصالح فدنياه محمودة، ومن كان فيها لاهياً لاعباً غافلاً عن ذكر الله تعالى مقصراً في طاعته فدنياه مذمومة غاية الذم، حقيرة غاية في الحقارة، فلكل أمريء دنيا يعيشها، وخير الناس من طال عمره وحسن عمله وشر الناس من طال عمره وساء فعله". كما قال صلى الله عليه وسلم.

 وعلى المسلم أن يتعرف على دنياه كما يتعرف على أخراه، فلا يقطع صلته بالحياة بحجة أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة؛ لأن هذا يخالف المنهج الذي وضعه الله لعبادة في كتابه العزيز في قوله تعالى: 

{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}

(سورة الملك: 15)

وفي قوله جل وعلا: 

{ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً } 

(سورة النساء: 100)

وغير ذلك من الآيات التي تدعو إلى العمل وتحث على طلب الرزق بالطرق المشروعة.

وقد وضع الله للدنيا والآخرة منهجاً متكافلاً فيما حكاه عن قوم موسى في نصحهم لقارون، وهو منهج يقوم على خمسة مبادئ.

قال تعالى: 

{ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }

(سورة القصص: 76- 77)

والفرح هو الفخور بماله، وجاهه، ومنصبه، وعلمه، وعمله، وصحته، وما إلى ذلك من النعم.

قال الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – في كتابه علل وأدوية: (التعريف بالآخرة حق، وهو شيء غير التجهيل في الدنيا، كما تحدث إنساناً عن مستقبله وضرورة الإعداد له ولا يعني ذلك بداهة لفته عن حاضره وصرفه عن مواجهته.

لكن بعض المربين والدعاة تغيب عنه هذه الحقيقة فيسيئ أكثر مما يحسن، ويترك في النفوس انطباعاً بأن الدين عدو الدنيا، وأن أحداً لا يبلغ حقيقة التقوى إلا إذا عاش وهو يعاني كآبة المنظر في الأهل والمال، أو إلا إذا عاش وهو جاهل بحقائق الحياة وقوانين المادة وسنن الله في كونه.

واختلال الميزان العقلي في هذه النظرة السيئة أنشأ أجيالاً من المسلمين لا تفقه دينا ولا تملك دنيا، بل لعله من أهم الأسباب في التخلف الضاري الذي أهان المسلمين في المشارق والمغارب.

نحن لا ننكر أن الدين أطال الحديث عن الدار الآخرة، وبث في النفوس الأشواق إلى نعيم الجنة كما بث فيها المخاوف من عذاب النار، لكن هذا الإسهاب في الوعد والوعيد هو لتهذيب الغزائز وكبح جماحها، ومنع طغيان العاجلة على الآجلة، وإخراج المرء من القوقعة الأرضية التي يحتبس داخلها غالباً، وفتح بصيرته على آفاق أوسع وحياة أخلد.

أما القصور في فهم الدنيا، والغربة على سطح الأرض، والعجز عن امتلاك زمام الحياة، فهذا كله لا يدل على تقوى، بل يدل على طفولو فكرية يضاربها الدين وتنكس بها ألويته وتتقهقر بها تعاليمه.

وليت شعري ماذا يفيد الإسلام من رجل مكن الله له في الأرض فلم يتمكن، أو جعلها له ذلولاً ليركبها ويبلغ بها غايته، فإذا هي تجمح به، وتسقطه من فوق ظهرها وإذا هو طريح الثري والعجز؟ّ!

وما العمل إذا استطاع ملاحدة ومخرفون امتلاك أسرار الحياة، ثم طوعوا ما يملكون لدعم كفرهم وتغليب أهوائهم؟..

ثم قال – رحمه الله - : والتعريف بالآخرة ليس تجهيلاً بالدنيا أو صرفاً عنها كما يتصور البعض، فربما أوجب عليك الإسلام أن يكون لك مال قارون، على ألا يكون لك كبره أو شحه أو فساده.

إن الصعلكة لا تقيم جهازاً ولا تبني جامعة للمعرفة، إنما ينشئ ذلك كله كثرة لا تلهى، وسعة لا تطغى، ودميا يسخرها مالكها لخدمة الدين.

إن هذا لهو الفهم الصحيح للدنيا وللزهد فيها، وكيفية التزام المنهج السليم في الموازنة بينها وبين الآخرة، وهذا هو الفهم الصحيح لقوله تعالى: 

{ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا }

(سورة القصص: 77)

إن الزهد في الدنيا لا ينافي طلب المعاني إذا كان في طلبها عزة الإسلام والمسلمين.

إن يوسف عليه السلام قال للملك – كما حكى القرآن الكريم عنه: 

{ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ }

(سورة يوسف: 55) 

ولم يخش على نفسه من غوائل الملك وأثقاله ومغرياته، ولم ينسه الملك بعد أن آل إليه طلب الآخرة والسعي إليها، بل كان ملكاً متواضعاً محسناً إلى الأقربين وغيرهم، يؤدي ما افترض الله عليه، ويدعو إلى الله على بصيرة مع القيام بأعباء الملك وشئون الرعية، ولم ينس في ظل هذا الملك أن يضرع إلى الله تعالى بأن يتوفاه على الإسلام ويدخله في عبادة الصالحين: 

{ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ }

(يوسف: 101)

عرفنا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: 

"ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا" 

ومعذرة إن كنا قد أطلنا الكلام في ذلك، ونريد أن نعرف في عجالة معنى: "يُحِبَّكَ اللَّهُ" فنقول: حب الله عز وجل معناه المناسب لذاته العلية هو: توفيقه للعبد الذي يحبه إلى ما يحبه ويرضاه.

وليس هناك نعمة أعظم من نعمة التوفيق إلى الإيمان والعمل الصالح، والفهم الصائب في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو أمل الأنبياء والمرسلين.

ولقد جاء على لسان شعيب – عليه السلام – وهو خطيب العرب وأفصحهم لساناً قوله كما حكى القرآن عنه: 

{ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ }

(سورة هود: 88)

ونلاحظ في هذه الآية أن التوفيق مشروط بثلاثة شروط:

الأول: إرادة الإصلاح وهي: النية الصادقة بإخلاص العمل لله، وهي: المدار الذي تترتب عليه صحة الأعمال وقبولها.

والثاني: التوكل على الله، وهو ثمرة من أعظم ثمرات الإيمان، ومعناه: الاعتماد على الله والثقة بفضله مع مباشرة الأسباب.

والثالث: الإنابة إلى الله تعالى، وهي: التوبة النصوح، والرجوع إلى الله بالقلب، وحسن العمل، والاطمئنان إلى قبول التوبة بنور يحصل للتائبين يعرفون به أن الله قد تقبلهم وتقبل منهم.

 والكلام في حب الله يطول، وهو يسيق حب العبد، فإذا أحب الله عبداً رزقه حبه، قال تعالى: 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }

(سورة المائدة: 54)

وكذلك الرضا فإذا رضى عنهم أرضاهم قال تعالى: 

{ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ }

(سورة البينة: 8)

وهو أعظم صفة أثنى الله بها على عباده، ورسمها على وجوههم، من رآها رأى فيها العزة في أسمى معانيها، ورأى فيها الرضا كل الرضا في أبهى مظاهره، قال تعالى في مصارف الإنفاق: 

{ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } 

(سورة البقرة: 273)

فهم أغنياء من التعفف أي بسبب التعفف – فـ { مِنْ } في الآية سببية – مع أنهم فقراء. والغنى غنى النفس، والقناعة كنز لا يفنى.

والمراد بالجاهل: الجاهل بحالهم بسبب بعده عنهم أو بسبب ترفعهم عن إظهار فقرهم بأي حيلة من الحيل.

وقد وصفهم الله عز وجل بأنهم لا يسألون الناس إلحاقاً أي: لا يلحون في المسألة، وهو تعريض بغيرهم ممن يفعلون ذلك، فهم لا يسألون الناس شيئاً على الإطلاق لثقتهم بفضل الله، ولعلمهم أن المسألة تنافي عزة المؤمنين، أو تجرحها جرحاً قد يتسع ويتسع حتى يتعود السائل على المسألة فتصير ديدنه، فتذهب بذلك مروءته وهي أعز ما يملك، إذ المروءة رأس الكرامة، ولن تتحقق هذه الكرامة إلا بالاتجاه إلى الله وحده، فمن لم يتجه إليه وكله لغيره، فيقع في الذل والمهانة: 

{ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ }

(سورة الحج: 18)

والمراد بقوله تعالى: 

{ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ }

(سورة الفتح: 29)

سيما الغنى وليست سيما الفقر كما يفهم بعض المفسرين، فالمقام مقام مدح – كما تعلم – ولو ارتسمت سيما الفقر على وجوههم ما كان لتعففهم معنى، فهذا كقوله تعالى في سورة الفتح:

{ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ }

(سورة الفتح: 29)

وهي سيما الإيمان وليست هي الأثر الذي يكون في الوجه من تأثير الحصير، أو من تأثير وضعه على الأرض الخشنة كما يقول بعض المفسرين.

وللتعفف عما في أيدي الناس صور كثيرة منها:

التعفف عن مال اليتيم، وإن كان لهم فيه حق الخدمة والكفالة إذا كانوا فقراء.

قال تعالى: 

{ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } 

(النساء: 6)

قال عمر – رضي الله عنه – : "إني نزلت نفسي منزلة ولي اليتيم، إن استغنى استعفف، وإن افتقر أكل بالمعروف".

والأكل بالمعروف معناه: إذا افتقر استدان من مال اليتيم فمتى أيسر وضعه مكانه.

هذا هو الصحيح الذي تطمئن إليه النفس، ويليه في الصحة قول من قال: يأخذ منه بحق خدمته لهم بشرط أن يقدرها له أهل الحل والعقد، بحيث يُرَاعي في تقديرها مصلحة الطرفين. والله أعلم.

ومن مظاهر التعفف عدم الاستدانة من الناس ما لم تدع الضرورة الملحة لذلك؛ فالدين هم بالليل وذل بالنهار.

وكان النبي يستعيذ في آخر صلاته من المغرم والمأثم.

والمغرم: هو الدين، والمأثم: هو الذنب.

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما: عن عائشة رضي الله عنها: 

"أن النبي الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة : "اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ، وأعوذ بك من فتنة الدجال ، وأعوذ بك من فتنة المحيا ، وفتنة الممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم . فقال له قائل : ما أكثر ما تستعيذ من المغرم ؟ فقال : إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ، ووعد فأخلف". 

وقال أحد الحكماء – وقيل هو على بن أبي طالب – الدين هم ولو درهم، والمرأة عار ولو مريم – أي عرض يجب المحافظة عليه ولو كانت في العفة مثل مريم رضي الله عنها - .

ومن مظاهر العفة التغاضي عما في أيدي الناس من النعم المادية حتى لا يتطرق الحسد إلى القلوب، فيسلب منها القناعة والرضا، فيتبدد نور الأيمان شيئاً فشيئاً بسبب الحسد حتى يتلاشى؛ لأن الحسد والإيمان ضدان لا يجتمعان، فهو أول معصية وقعت في الخليقة، وهو السبب الأول في كفر من كفر.

وقد تكلمنا عن الحسد في موضع آخر عن الكلام على حديث: 

"لَا تَحَاسَدُوا".

واعلم أن الزهد مما في أيدي الناس نوع من الكرم لا يعرفه أكثر الناس لأن الكرم من الكرامة، وما سمي الكريم كريماً إلا لأنه يعطي الناس ويتنزه عن أعطياتهم، فهو يعطيهم لله بمقتضى دينه وأريحيته ولا يسألهم في مقابل ذلك شيئاً.

قال ابن المقفع: عود نفسك السخاء، واعلم أنهما سخاءان – سخاوة نفس الرجل بما في يديه، وسخاوته عما في أيدي الناس، فمن بذل وعف فقد استكمل الجود والكرم.

والناس يحبون من يعطيهم ولا يأخذ منهم، تلك جبلة فيهم لا مهرب لهم منها – وإن حاولوا ذلك – فكلمة خذ عندهم لها حلاوة، وعليها طلاوة، ولها في النفس رنين وحنين.

أما كلمة هات فبينهم وبينها عداوة، قد يستجيب لها المرء أو مرتين ثم لا يستجيب لها ولا يرحب بقائلها، ويتمنى أن يفارقه فلا يعود إليه إلا من عصم الله من هذا الشح المطاع، وهو قليل.

لو سئل الناس التراب لأوشكوا

                        إذا قيل هات أن يملوا ويمنعوا

إن الإنسان ليغضب إن سألته، والله يغضب إن لم تسأله، فمن تسأل إذا؟ يقول الله عز وجل: 

{ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا }      

(سورة النساء: 32)

ويقول عز وجل: 

{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }

(سورة البقرة: 186)

وما أحسن قول القائل:

              لا تسألن بني آدم حاجة

                                 وسل الذي أبوابه لا تحجب

              الله يغضب إن تركت سؤاله

                                 وبني آدم حين يسأل يغضب

فإن لم تسأل الناس وابتعدت عن درهمهم ودينارهم أحبوك، وإن أعطيتهم قربوك وعظموك، وربما بالغوا في مدحك وإطرائك، ورفعوك مكاناً علياً، ونسوا أو تناسوا ماضيك وحاضرك ومساوئك كلها، وقبلوا منك ما لم يقبلوا من غيرك وصدقوك في كل شيء ولو بألسنتهم محاباة ومجاملة لك، وطمعاً في المزيد من رفدك.

 

هكذا الناس مع الأغنياء أهل الكرم والسخاء, وما أحسن قول شوقي رحمه الله:

إن الدراهم في الأمــاكن كلها                   تكسو الرجال مهابة وجمالاً

فهـي اللسان لمن أراد فصاحة                  وهي السلاح لمن أراد قتالاً

إن الغني إذا تكلـم بالخطــأ                     قالوا أصبت وصدقوا ما قالا

وإذا الفقير أصاب قالوا كلهم                    أخطأت يا هذا وقلت ضلالا

 نعم قالوا كلهم – بقضهم وقضيضهم – وقاموا عليه قومة رجل واحد يقولون: أخطأت يا هذا، ولم يقولوا: أخطأت يا فلان – بإسمه – استكثروا عليه أن يكون له اسماً في الوجود.

 

وما أحسن قول الآخر:

يُــؤذَى الفقيُر ُوكلُّ شَي ضِـدُّهُ                   وَيَرى العَدَاوةَ لَا يَرَى أسبَابَها

وَتَراهُ ممقُوتــا وليــس بمذنبٍ                  والناسُ تُغلِقُ دونَـــه أبوابَــها

حتى الكلاب إذا رأت ذَا ثَروةٍ                   خَضَعَتْ إلَيهِ وَحَرَّكت أذنابَها

وإذا رآتْ يَــومًا فَقيــراً مَاشِيًا                   نَبِحَتْ عَلَيه وَكشَّرت أنْيَــابَهَا

 

وكان في البادية أعرابي له مال كثير ينفق منه ذات اليمين وذات الشمال وكان الناس يأتون إليه أفواجاً صباح مساء، وظل يجود عليهم بما رزقه الله حتى افتقر ومرض فلم يعده أحد، فأنشد قائلاً.

المالُ في زمن الإقبالِ كالشجرة

                        الناس من حولها ما دامت الثمرة

    فإن نض عنها رويداً حملها انصرفوا

                        وتركوها تؤاسي الحر والغبرا

 

ومن هنا نشعر بقيمة هذه الوصية التي أوصى بها الرسول صلى الله عليه وسلم كل من يريد أن يحبه الله وأن يحبه الناس.

ونحن لا نرى انفصالاً بين الزهد في الدنيا والزهد فيما في أيدي الناس، فهما متلازمان.

ولا نرى انفكاكاً بين حب الله وحب الناس، فمن أحبه الله حبب فيه خلقه، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه وغيره: 

"إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّي  أُحبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ثم يُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ قد أحب فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ.


اللهم زهدنا في الدنيا، ورغبنا في الآخرة يا رب العالمين.