ما عندك يا ثمامة
وهنا موقف يوضِّح لنا رِفق الرسول وحرصَه على دعوة القادة وتأليف قلوبهم دون غلظة أو إذلالٍ، وهنا نرى كيف كان رد فعل ثمامة بعد أن عامله الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالحسنى والقول الطيب:
كانت أول حملة عسكرية وجَّهها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لتأديب خصومه بعد غزوة الأحزاب، هي تلك الحملة التي جرَّدها على القبائل النجدية من بني بكر بن كلاب، الذين كانوا يقطنون القُرَطاء بناحية ضربة، على مسافة سبع ليالٍ من المدينة.
ففي أوائل شهر المحرَّم عام خمسة للهجرة، وبعد الانتهاء مباشرة من القضاء على يهود بني قريظة، وجَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - سريَّة من ثلاثين من أصحابه عليهم محمد بن مسلمة لشنِّ الغارة على بني القُرطاء من قبيلة بكر بن كلاب، وذلك في العاشر من محرَّم سنة 6هـ، وقد داهَموهم على حين غِرَّةٍ، فقتلوا منهم عشَرةً وفرَّ الباقون، وغنِم المسلمون إبلَهم وماشيتهم، وفي طريق عودتهم أسروا ثُمامة بن أُثال الحنفي سيد بني حنيفة، وهم لا يعرفونه، فقدِموا به المدينة، وربطوه بساريةٍ من سواري المسجد، فخرج إليه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال:
ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خيرٌ يا محمد، إن تَقتلني، تقتل ذا دمٍ، وإن تُنعم، تنعمْ على شاكر، وإن كنت تريد المال، فسَل منه ما شئت، فترَكه حتى كان الغد، فقال: ما عندك يا ثُمامة؟ فقال: عندي ما قلت لك، إن تُنعم، تنعم على شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد، فقال: ما عندك يا ثُمامة؟ فقال عندي ما قلت لك، فقال: أطلقوا ثُمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أنْ لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، يا محمد، والله ما كان على الأرض وجهٌ أبغض إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه إليَّ، والله ما كان دِين أبغض إليَّ من دينك، فأصبح دِينك أحبَّ الدين إليَّ، والله ما كان بلدٌ أبغض إليَّ من بلدك، فأصبحتْ بلدك أحبَّ البلاد إليَّ، وإنَّ خيلك أخَذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشَّره رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأمره أن يَعتمر، فلمَّا قدِم مكة قال له قائل: صبوتَ؟ قال: لا والله، ولكني أسلمتُ مع محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا والله، لا يأتيكم من اليمامة حبَّةُ حِنْطة؛ حتى يأذَن فيها النبي - صلى الله عليه وسلم.
وقد أبرَّ بقسَمه؛ مما دفَع وجوه مكة إلى أن يكتبوا إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثُمامة؛ ليخلي لهم حمل الطعام، فاستجاب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لرجاء قومه بالرغم أنه في حالة حرب معهم، وكتَب إلى سيد بني حنيفة ثمامة: أن خَلِّ بين قومي وبين مِيرَتِهم، فامتثَل ثمامة أمر نبيِّه، وسمَح لبني حنيفة باستئناف إرسال المحاصيل إلى مكة، فارتفع عن أهلها كابوس المجاعة.