مراعاة النفسيات المختلفة
مع اتفاق بني البشر في طبائعَ معينةٍ، إلا أن الله خلَق لكل إنسان شخصيَّةً خاصة به، وطباعًا تتعلق به وحده، يتوارثها أو يكتسبها من بيئته، كما أنَّ لكل فرد نفسيَّةً خاصة تحتاج لفهم؛ حتى لا نسبِّب الأذى، أو نقلل شأن أحد دون وعي أو إدراك، وهذا فن آخر يعلِّمنا إياه رسولُ الإنسانية - صلَّى الله عليه وسلَّم - من خلال تعامُله مع صحابته ومع غيرهم من أفراد المجتمع في المدينة.
ولنتأمل بعضًا من تعامله مع تلك النفسيات المتباينة، كيف تعامل معها جميعًا، وجمعها في وحدة واحدة، وعلى طريق واحد؟
تعامله مع الصديق - رضي الله عنه -:فها هو مع صاحبه وخليله أبي بكر يقدِّر له تلك النفس الرقيقة، ويختاره صاحبًا له في الهجرة، ولم يقل حينها: أنا أحتاج إلى رفيق قوي يحمي الدعوة؛ وإنما رآه رجلَ تلك الرحلة - والتي كانت من كبرى أحداث الإسلام - بل كاد أن يتوقف عليها مستقبلُ الدعوة بأكملها، ثم ها هو يختاره في أشدِّ اللحظات حرجًا؛ ليؤكد أنه الأصلح لخلافته.
لَمَّا مرِض رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مرَض الموت، واشتد عليه الوجع، لم يستطع القيام ليصلِّي بالناس، فقال وهو على فراشه: ((مُروا أبا بكر فليصلِّ بالناس))، قالت أم المؤمنين عائشة بنت الصديق - رضي الله عنها -: إن أبا بكر رجل أسيفٌ، إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلِّي بالناس؛ أي: من شدَّة التأثر والبكاء، وكان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعلَم ذلك عن أبي بكر، أنه رجل رقيق يغلِبه البكاء، خاصة في هذا الموطن، لكنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يشير إلى أحقيَّة أبي بكر بالخلافة من بعده، فأعاد - صلَّى الله عليه وسلَّم - الأمر: ((مُروا أبا بكر فليصلِّ بالناس)) حتى صلَّى أبو بكر.
تعامله مع عمر بن الخطاب: وتعامل - صلَّى الله عليه وسلَّم - مع عمر القوي الجريء في الحق الذي لا يرضى بالدَّنِية، وزكَّى شجاعته وقوته بتلقيبه بالفاروق، وبقوله له:
((ما لقِيك الشيطان قطُّ سالكًا فجًّا، إلا سلك فجًّا غير فجك)).
وهنا في هذا الموقف نجد لعمر حضورًا يسعد به النبي.
لقد خرج النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - مع أصحابه إلى بدرٍ، فلما سمع بخروج قريش عرَف أن رجالاً من قريش سيحضرون إلى ساحة المعركة كرهًا، ولن يقع منهم قتال على المسلمين.
فقام - صلَّى الله عليه وسلَّم - في أصحابه وقال:
((إني قد عرفت رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهًا لا حاجة لهم بقتالنا؛ فمن لقِي منكم أحدًا من بني هاشم، فلا يقتله، ومن لقِي أبا البَخْتَرِيِّ بن هشام، فلا يقتله، ومن لقِي العباس بن عبدالمطلب عمَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلا يقتله؛ فإنه إنما خرج مُستكرَهًا)).
وقيل: إن العباس كان مسلمًا يكتم إسلامه، فلم يحبَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يقتله المسلمون.
كانت هذه المعركة أول معركة تقوم بين الفريقين: المسلمين وكفار قريش.
وكانت نفوس المسلمين مشدودة، فهم لم يستعدوا لقتال، وسيقاتلون أقرباء وأبناء وآباء.
وهذا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يمنعهم من قتل البعض، وكان عتبة بن ربيعة من كبار كفَّار قريش، ومن قادة الحرب، وكان ابنه أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة مع المسلمين، فلم يصبر أبو حذيفة، بل قال: أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا، ونترك العباس؟! والله لئن لقِيتُه لأُلحمنَّه بالسيف.
فبلغت كلمتُه رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فالتفت النبي - عليه الصلاة والسلام - فإذا حوله أكثر من ثلاثِمائة بطل، فوجه نظره فورًا إلى عمر، ولم يلتفت إلى غيره وقال: ((يا أبا حفص، أيُضرَب وجهُ عمِّ رسول الله بالسيف؟!)).
قال عمر: والله، إنه لأول يوم كنَّاني فيه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأبي حفص.
وكان عمر رهنَ إشارة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويعلم أنهم في ساحة قتال لا مجال فيها للتساهل في التعامل مع من يخالف أمر القائد، أو يعترض أمام الجيش، فاختار عمر حلاًّ صارمًا، فقال: يا رسول الله، دعني فلأضرب عنقه بالسيف، فمنَعَه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ورأى أن هذا التهديد كافٍ في تهدئة الوضع.
كان أبو حذيفة - رضي الله عنه - رجلاً صالحًا، فكان بعدها يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذٍ، ولا أزال منها خائفًا إلا أن تكفِّرها عني الشهادة، فقُتل يوم اليمامة شهيدًا.
هذا عمر، كان - رضي الله عنه - يعلم بنوع الأعمال التي يسندها إليه، فليس الأمر متعلقًا بجمْع صدقات، ولا بإصلاح متخاصمينِ، ولا بتعليم جاهل؛ وإنما هم في ساحة قتال، فكانت الحاجة إلى الرجل الحازم المهيب أكثر منها إلى غيره؛ لذا اختار عمر واستثاره: ((أيُضرب وجه عم رسول الله بالسيف؟!)).
وهذا الموقف الآخَر الذي يرويه لنا الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود يؤكد لنا كيف زكى رسول الله صاحبيه الاثنين، ورأى في كلٍّ منهما شبهًا بأحد الأنبياء، فلم يعتب على أحد منهما في رأيه، وإنما رأى لكل منهما نفسيةً خاصة يصدُر عنها في رأيه؛ فقدَّر هذا ورحَّب به، فليتنا نتشبَّه بفعل رسول الله ونقتدي بفعله الكريم؛ فعن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: لَمَّا كان يوم بدر قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟)) فقال أبو بكر: يا رسول الله، قومُك وأهلك، استبقهم واستأْنِ بهم، لعلَّ الله أن يتوب عليهم، وقال عمر: يا رسول الله، أخرجوك وكذَّبوك، قرِّبهم فاضرب أعناقهم، وقال عبدالله بن رواحة: يا رسول الله، انظر واديًا كثير الحطب، فأدخلهم فيه ثم أضرم عليهم نارًا، فقال العباس: قطعتَ رحمَك، فدخل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولم يردَّ عليهم شيئًا، فقال ناسٌ: يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عُمر، وقال ناس: يأخذ بقول عبدالله بن رواحة، فخرج عليهم رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال:
((إنَّ الله لَيُلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألينَ من اللبن، وإنَّ الله ليَشدُّ قلوب رجال فيه حتى تكون أشدَّ من الحجارة، وإنَّ مثلك يا أبا بكر، كمَثل إبراهيم - عليه السلام - قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36]، ومثلك يا أبا بكر كمثَل عيسى قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، وإن مثلك يا عمرُ كمثَل نوحٍ؛ إذ قال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]، وإنَّ مثلك يا عمر كمثل موسى قال: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88]، ثم قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أنتم عالة، فلاَ يَنْفَلِتَنَّ منهم أحد إلا بفداء أو ضرْب عُنق))