اسْتَحْيُوا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ
عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"اسْتَحْيُوا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ قَالَ: "لَيْسَ ذَاكَ وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى وَلْتَذْكُرْ الْمَوْتَ وَالْبِلَى وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ"
هذا الحديث فيه من الوصايا التي لو تَمسك بها المسلم لكفته في إصلاح دينه ودنياه، إذ كل وصية منها تحمل بين طياتها ما لا ينحصر من الخصال الحميدة التي تُعَدُ كل خصلة منها برهاناً على صحة الإيمان، وسلامة اليقين.
الوصية الأولى قوله صلى الله عليه وسلم:
"اسْتَحْيُوا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ"
ومعنى استحيوا اطلبوا لأنفسكم الحياء، وتكلفوه إن لم يكن طبعاً فيكم، واصطنعوه لأنفسكم كلما وجدتموها قد مالت إلى ما لا تُحْمَدُ عواقبه، أو استخفت بفضيلة من الفضائل، أو أقدمت على رزيلة من الرذائل، أو قصرت في واجب من الواجبات، أو استهانت بمندوب من المندوبات، أو أكثرت من تناول المباحات، أو خاضت فيما لا يعنيها.
والحياء خلق فاضل، وكمال وافر، وسلوك نبيل، وهو من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد؛ ولهذا خصه النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر من بين شعب الإيمان، فقال:
"الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ"
وقد عرفه العلماء بتعريفات متقاربة، توضح معناه بالوصف؛ لأنه – فيما أرى – ليس له حد جامع مانع، إذ هو من الشعب التي تتشعب من غيرها، ويتشعب غيرها منها، فهو راقد تمده روافد، وبحر تمده أبحر، حتى كاد يكون هو الإيمان كله.
وقد نوه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال:
"الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ"
وقال صلى الله عليه وسلم:
"الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ"
وهذا لا يمنع أن يكون هناك نوع من الحياء مذموم، وذلك النوع إنما لحقه الذم لأسباب سيأتي ذكرها.
وإذا كان "الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ". فإن عدمه يكون وبالاً على من فقده أو فقد الكثير منه.
ولا بأس أن ننقل هنا بعض ما ذكره العلماء في تعريف الحياء.
(أ) قال بعضهم هو: تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به ويذم.
أما التغير الذي يحدث للإنسان مما يخاف أن يعاب به ويذم فإنه يرى على وجهه، فتراه يحمر، أو يصفر أحياناً.
وأما الانكسار فهو الشعور بالخزي والمذلة عندما يخشى أن يكون قد وقع فيما يعاب به ويذم، فترى رأسه قد انخفض، وترى عينيه قد غاصت إلى الداخل، أو يخيل إليك ذلك، أو تراه قد أغمضها، وهذا إذا اشتد به الحياء، وأخذ منه مأخذاً.
(ب) وقيل: إن الحياء هو انقباض النفس عن القبيح وتركه.
وهذا الانقباض والترك هو من أثر الحياء، وليس هو الحياء نفسه، ولكن يجوز تعريف الشيء بأوصافه وآثاره.
(جـ) وقيل: الحياء انفعال النفس وتألمها من النقص والقبيح بغريزة حب الكمال.
أي: بسبب غريزة حب الكمال، والتطلع إليه، والسعي إلى تحصيله، وهي غريزة محمودة، إذا ما صحبها الاعتدال والتواضع.
وهذا التعريف أقرب من التعريف الأول والثاني وأوضح.
ولا يرد عليه وصف الله – تبارك وتعالى – بالحياء في قوله جل وعلا:
{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا }
(سورة البقرة: 26)
فإن أوصاف الله تعالى من الرحمة، والرأفة، والحياء، ونحوها، أوصاف أفعال، وليست أوصاف انفعال، بمعنى أن الرحمة مثلاً رقة في القلب، والله منزه عن ذلك، والحياء تغير وانكسار، وانفعال خاص، والله منزه، عن ذلك، فيصرف المعنى إلى الفعل.
فيقال في قوله تعالى:
{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي }
أي: لا يأبى، ولا يمتنع أن يضرب الأمثال بالعظيم والحقير من المخلوقات، كالذبابة، والعنكبوت، فإن ما تراه حقيراً هو عظيم، لو تأملناه، وعرفنا كُنهه، وقدرته على تكييف نفسه بحسب البيئة التي يعيش فيها، وحماية نفسه من عدوه، وتحصيل رزقه...إلخ.
وسيأتي للحياء مزيد بيان في شرح هذا الحديث وغيره – إن شاء الله تعالى.
والرسول – صلى الله عليه وسلم: يأمر أصحابه أن يبالغوا في الحياء مع الله تعالى فيقول:
"اسْتَحْيُوا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ"
أي : الحياء الحق، الذي لا يترك صاحبه إلا وهو على المحجة البيضاء، والطريق السوي، والمنهج القويم.
ولا شك أن من بلغ به الحياء هذا الحد يكون قد قارب الكمال، وبلغ المنزل الذي لا يتجاوز قدره، فإن للأنبياء منزل لا يدانيهم فيه أحد، وللصديقين منزل لا يداينهم فيه أحد من دونهم.
والناس متفاوتون في الحياء وغيره من شعب الإيمان لكن الحيىَّ يدفعه حياؤه إلى مواطن الخير، ويذبه عن مواطن الشر بالطريقة المثلى وبصورة مشرفة غير متكلفة.
ومبلغ علمي أن شعب الإيمان لا تستجيب لأحد يخلو من الحياء؛ لأن الحياء قلب حي، وضمير يقظ، وشعور مرهف، وإحساس نبيل، يهون على صاحبه ارتياد طريق الخير مهما كان فيه من عقبات، ويبغض إليه طريق الشر وإن كان مفروشاً بالورود.
وصاحب الحياء إنسان ذو مروءة يحترم آدميته، فلا يهينها أبداً، ويوقر إنسانيته فلا ينزل بها عن مستواها البتة؛ بل يحافظ على ما حباه الله به من التكريم والتفضيل، فيظل إنساناً بكل ما تعنيه كلمة الإنسانية من معنى, ويبقى مدة عمره حراً في حدود الشرع لا يحاور, لا يداور، ولا يداهن، ولا ينافق، ولا يتملق أحداً، ولا ينظر إلى ما في أيدي الناس، فيحمله النظر على الحقد والحسد، ولا يرغب في الدنيا بقدر ما يرغب في الآخرة، ولا يخرج عن طبعه بسبب التقليد والمحاكاة، وإن خرج الناس جميعاً عن أطباعهم وقلدوا غيرهم باسم التحضر والتمدن وما إلى ذلك من الأسماء البراقة الخداعة.
وهل كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يخص أصحابه بهذه الوصية؛ لأنه يرى أنهم أقدر الناس على استيعابها، وتنفيذها على الوجه الذي يريده، أم هي عامة لهم ولغيرهم؟.
والجواب سهل ميسور، فنقول: إن هذه الوصية لهم على وجه الخصوص وللمؤمنين جميعاً على وجه العموم، وكل على قدر حاله، فإذا استحيا المؤمن من الله على قدر درجته من العلم والفهم والإيمان فقد استحيا – والحمد لله - .
غير أن الصحابة – رضوان الله عليهم – أرادوا أن يخبروا عن أنفسهم بأنهم قد استحيوا من الله حق الحياء ظناً منهم أن الحياء هو الإجلال والتوقير، والحمد والثناء، وما إلى ذلك من كل ما يجب عليهم فعله نحو ربهم – عز وجل – من التوحيد والتقديس، فقالوا: إنا نستحي – والحمد لله – يا رسول الله.
وهم لم يدعوا ذلك إطراء لأنفسهم، أو اغتراراً بأعمالهم، كلا ولكنهم أجابوه بما يحب، وبما يدخل السرور على نفسه، وبقدر ما فهموا من معنى الحياء، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم:
"ليس ذاك"
أي: ليس الأمر يقف عند حد ما قد فهمتم؛ بل هو أوسع من ذلك وأشمل.
وكأني برسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعرف أنهم سيقولون ذلك، فأراد أن يزيدهم في الحياء فهماً، وفي الدين علماً، وأحب أن يعظهم وعظاً بليغاً، فمهد بذلك بقوله:
"اسْتَحْيُوا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ"
وفي هذا التمهيد عبرة لكل من يتصدى للعلم والوعظ والإرشاد، فإنه لا بد أن يفتح الباب بسؤال، أو بنصح مجمل، يجعل الناس يسألونه بلسان الحال أو المقال عن بيان معناه بشيء من التفصيل، فيبدأ بالبيان، ويتمادى فيه، من غير تطويل ممل، حتى لا تضيع المعاني بسبب الإسهاب.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في كل شيء.
وبعد أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
"لَيْسَ ذَاكَ"
تتطلع الأنظار إلى ما سيذكره الرسول صلى الله عليه وسلم بعد هذا القول الموجز البليغ، وهو قوله
"لَيْسَ ذَاكَ"
فيقول مستدركاً:
"وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى...إلخ".
والخطاب ليس لواحد من أصحابه كما يظن بادى الرأي، ولكنه خطاب لكل من يصلح له الخطاب من المؤمنين، فهو رسول للناس جميعاً، وخطاب الواحد خطاب للجميع، ما لم يرد هناك تخصيص.
وحفظ الرأس وما وعاه من عقل، وسمع، وبصر، ولسان، وعنق، يعتبر ضرورة من ضروريات حفظ الدين.
وأول ما يجب على المسلم حفظه العقل؛ لأنه مناط التكليف، وحفظه يكون بترك كل ما يغتاله، أو يؤدي إلى اغتياله ولو بعد زمن طويل.
وما يغتال العقل معروف، كتعاطي الخمر والمخدرات، وما في حكمها من المضار.
ويكون حفظه أيضاً بتدريبه على التأمل والنظر في آيات الله الكونية، وتبصيره بسائر أمور الدين وشئون الدنيا، فإن العقل إذا لم يدرب على التدبر والتفقه يصدأ، ويفسد، ويخمل، فلا يعقل شيئاً ذا بال، بل يكون معقولاً عن التفكر والتبصر، فينحط شأنه، وبانحطاط شأنه ينحط صاحبه إلى درجة الأنعام، بل يكون أضل منها سبيلاً.
والآفات التي تصيب العقل كثيرة، لا تقتصر على ما ذكرناه ولكن لذكر لا ينفع وقد يضر، وصرفه عن سماع الأغاني الخليعة وكل ما فيه مجون، وتقويته بسماع الذكر, العلم، والوعظ، وما إلى ذلك مما يحمد سماعه ولا يذم.
وأما البصر فينبغي أن يغض عن المحارم، ويصرف عن كل ما يستحيا من رؤيته من المناظر الخليعة والظواهر الممقوتة.
وأما اللسان فهو صغير الحجم كبير الجُرم، يوقع صاحبه في مآزق قد لا يمكنه أن يتخلص منها، بل ربما يورده موارد الهلكة فلا تقوم له قائمة، وأكثر المعاصي تتأتى منه، وتصدر عنه، وقد تكلمنا عن آفات اللسان في حديث سابق.
وأما العنق فهو عمود الرأس وحامله، تصدر عنه كثير من المعاصي كالتعبير به عن الكبر والغرور، واحتقار الناس والاستخفاف بهم، قد قال تعالى حكاية عن لقمان وهو يوصي ابنه:
{ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ }
(سورة لقمان: 18)
وتصعير الخد: ميله إلى اليمين أو إلى الشمال، تكبراً وإعراضاً، وميل الخد يتطلب بالضرورة ميل العنق كما هو معروف.
وقال – جل شأنه – :
{ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ }
(سورة الحج: 9)
والعطف هو العنق، وثنيه لويه تكيراً وتجبراً، والمسلم لا يكون إلا متواضعاً لله، ومتواضعاً للناس أيضاً في غير منقصة.
والتواضع هو أول صفة من صفات عباد الرحمن، كما ذكر الله – جل شأنه – في سورة الفرقان حيث قال:
{ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا }
(سورة الفرقان: 63)
والمعنى: يمشون متواضعين لا يرون لأنفسهم فضلاً على الناس، ولفرط تواضعهم لا ينتقمون لأنفسهم بل يعفون عن الجاهل بأمور الدين، والسفيه الذي لا يحسن الكلام، ويقولون له قولاً فيه سلام لهم ولمن يجهل عليهم.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم:
"وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى"
فهو قول مرتب على سابقه ترتيباً تنازلياً، ومبنياً على حفظ الرأس وما وعاه – مما قد ذكرناه. وكلام النبي – صلى الله عليه وسلم – مرتب مهذب، يأخذ بعضه بحجز بعض, بغير إشعار بالنقلة.
وحفظ البطن يكون بحمايتها من وصول شيء إليها مما حرمه الله، فلا يتعاطى المسلم الخمر، ولا يأكل الربا، ولا يأكل مال اليتيم، ولا يأكل شيئاً فيه شبهة، ولا يملأ بطنه فتفسد الأمعاء، فيفسد بفسادها الجسم كله، فما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه.
ويدخل في حفظ البطن حفظ الفرج؛ لأن البطن ليست هي الأمعاء وحدها، بل يشمل اللفظ الصدر أيضاً، فالبطن ما قابل الظهر من أعلى إلى أسفل، كما هو معروف في كتب اللغة، وإن كان المتبادر إلى الذهن أنها الأمعاء وحدها عند الإطلاق.
وعلى ذلك يكون البطن قد حوى الصدر والقلب، والأمعاء والفرج، وهي أمورأربعة تماثل الأمور الأربعة التي حواها الرأس، وهي العقل والسمع والبصر واللسان.
ويلحق بالبطن القدمان – كما ألحقنا العنق بالرأس – فيكون الحياء معناه: حفظ كل ما أمر الله بحفظه، وهو الجسد كله بجميع محتوياته على الجملة.
ونحن نعلم من دراستنا لعلم أصول الفقه أن حفظ النفس من الضروريات الخمسة، وهي: حفظ الدين، والنفس, والنسل، والعقل، والمال.
فمن حفظ دينه فقد حفظ نفسه ونسله، وعقله وماله، وحفظ الدين يتوقف على الحياء؛ لهذا كان الحياء قرين الإيمان، ولا ينفك عنه ولا يفارقه.
روى البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن الحياء والإيمان قرناء جميعاً، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر"
والمعنى أن الإنسان إذا وقع في معصية من المعاصي بسبب تخليه عن الحياء أو تخلي الحياء عنه، ويرتفع عنه الإيمان حتى يعود إليه حياؤه؛ لأنه إذا عاد إليه حياؤه ندم على ما فعل، والندم توبة.
ولا يقدم الإنسان على ما يستحيا منه إلا بسبب فقدان الحياء – كما أشرنا – وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى إِذَا لَمْ تَسْتَحِي فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ"
وقد وردت في الحياء أحاديث كثيرة تجدل على أنه من أعظم الأخلاق وأسماها، وأن صاحبه في أعلى المنازل عند الله يوم القيامة، ومنها:
(أ) ما رواه الترمذي عن أبي الدرداء – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن أَثْقَلُ شيء يُوضع فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ"
(ب) وروى أحمد والترمذي عن أبي هريرة – رضى الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاءة من الجفاء، والجفاء في النار"
(جـ) وروي الترمذي وأبو داود والبيهقي، عن سلمان الفارس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا"
قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"وَتَتَذَكَّرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى"
معناه: أن تكون حريصاً على تذكرهما بحيث لا تغفل عنهما إلا وقد أحدثت لنفسك بعد الغفلة ذكرا لهما.
وذلك بأن ينظر المرء فيما يدور حوله، وفيما فوقه وفيما تحته، فيذكر قدرة الله تعالى أولا فيما خلق وبرأ، ثم يتذكر هذا الخلق إلى زوال حتماً في يوم ما، ويستعين على تقوية هذا المعتقد بما جاء في القرآن الكريم من آيات تدل على ذلك كقوله تعالى:
{ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}
(سورة الأنعام: 29)
وقوله – جل – شأنه - :
{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
(سورة البقرة: 28)
وقوله سبحانه:
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ }
(سور آل عمران: 185)
وقوله تعالى:
{ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ }
(سورة النساء: 78)
وقوله تعالى:
{ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
(سورة القصص: 88)
وقوله جل شأنه:
{ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}
(سورة الرحمن: 26- 27)
إلى آخر ما هنالك من الآيات التي تُذكر المؤمن بيومه الموعود، ومصيره المنتظر، وتُهون عليه مصائب الدنيا، وتزهده في شهواتها وملذاتها، وتحمله على الاعتدال في سيره وسلوكه، فإن القرآن الكريم كتاب هداية، ومنهج حياة يعظ الإنسان في نفسه وعظاً بليغاً، ويذكره بماضيه، وحاضره، ومستقبله كلما عفل عن ذلك، أو تغافل.
والناس في تذكر الموت عنه أصناف ثلاثة:
(أ) فمنهم من لا يكاد ينساه، وهم الأخيار من المؤمنين، فإنهم يعتبرون أن نسيان الموت ضلال مبين، إذ يجعلهم في شغل شاغل بأمور الدنيا، وهي دار فانية، وكل نعيم فيها إلى زوال، وأنه من جعل الدنيا مبلغ همه شتت الله شمله، وجعله فقره بين عينيه، ولا يأتيه من الدنيا إلا ما قدر له، بخلاف من جعل الآخرة همه، فإن الله – عز وجل – سيجمع له شمله، ويجعل غناه في قلبه، ويجعل الدنيا خادمة له، فتأتيه وهي راغمة فيزهد فيها لعلمه بدناءتها، وخستها، وسرعة انقضائها، وأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة.
(ب) ومنهم من جعل إلهه هواه، وغفل تماماً عن ذكر الله، وظن أنه مخلد في الدنيا، وأن الموت لا يأتيه أبداً، وقد يمشي في جنازة وهو يضحك، ويتكلم مع صاحبه في أمور الدنيا، ولا يكاد يفكر في مصيره المحتوم، وإن كان يقول: الموت علينا حق، ويعزي صاحبه فيقول: كلنا لها، وربما عزاه بقوله تعالى:
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ }
(سورة آل عمران: 185)
(جـ) ومنهم من يذكر الموت تارة وينساه أخرى، وهؤلاء نوعان:
نوع تذكرة للموت أكثر من نسيانه له و، هو قريب من الصنف الأول.
ونوع نسيانه الموت أكثر من تذكره له، وهذا إلى الصنف الثاني أقرب.
ومن استحيا من الله أكثر من تذكر الموت والبلى.
والبلى – بكسر الباء – هو فناء الأجساد بعد فسادها بالموت، فتصير عظاماً نخرة، بل تصير تراباُ مختلطاً بتراب الأرض، فلا يعرف الملك من المملوك، ولا الغنى من الفقر، فالوصف المطابق لحالهم جميعاً أنهم ترابيون، وكفى.
قال مالك بن دينار:
أتيـــت المقـابر ناديتها أيــن المعظــم والمفتـخر
أيـــن المــدل بسلطانه أين المزكي إذا ما حضر
أين الملبي إذا ما داعا أيـن العـزيز إذا ما أمـــر
قال: فسمعت منادياً – ولم أر شيئاً – يقول:
تفانــوا جمـيعاً فـــلا مخبـــر ومــــاتوا جميعاً وهذا الخبر
تروح وتغدو بنــات الثــرى فتمحـوا محاسن تلك الصور
وقد قـلد القـــوم أعمالهـــم فإمـا نعيـــم وإمــا سقــــر
وساروا جميعاً إلى ملك قادر عــزيز مطاع إذا ما أمــر
فيا سائلي عـن أناس مضوا أما لك فيمــن مضى مـعتـبر
نعم أما لك فيمن مضى معتبر، وأنت في تناقص دائم – تناقص في العمر، وتناقص في الخلق، وعمرك هو رأس مالك، إن ضيعته فقد ضيعت كل شيء، وأن اليوم الذي يمضي لا يعود، وأن في قلبك ساعة تدق، فإذا كفت عن الدق فقد انتهى أجلك ولم يصحبك إلى قبرك إلا عملك، إذ يرجع أهلك ومالك، فلماذا اتغفل عن ذلك؟.
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان
بل هي أنفاس معدودة، في أماكن محدودة، وحساب ربك ليس بالدقائق ولا بالثواني، ولا بالأنفاس، بل حسابه بما لا يحيط به علماً إلا هو، ولكن ليس لنا قانون نحسب به أعمارنا إلا الدقائق والثواني والأنفاس، فلنعتبر أنفسنا أمواتاً أولا أموات، حتى نتمكن من التزود لدار القرار، وهي الدار التي لا موت فيها أبداً.
فمالك ليس ينفع فيك وعظ
ولا زجر كأنك من جماد
ستندم إن رحلت بغير زاد
وتشقى إذ يناديك المنادي
تب عما جنيت وأنت حي
وانتبه وأفق قبل الرقاد
ولا تأمن لذي الدنيا صلاحاً
فإن صلاحها عين الفساد
تأهب للذي لا بد منه
فإن الموت ميقات العباد
أترضى أن تكون رفيق قوم
لهم زاد وأنت بغير زاد
جلس أربعة من الأخيار، قيل هم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي فتذاكروا الموت، ففاضت أعينهم بالدمع، فأنشد الأول:
الموت باب وكل الناس داخله
ليت شعري بعد الموت ما الدار؟
وأنشد الثاني:
الدار دار نعيم إن عملت بما
يرضى الإله وإن خالفت فالنار
وأنشد الثالث:
ما للعباد سوى الفردوس إن عملوا
وإن هموا هفوا هفوة فالرب غفار
وأنشد الرابع:
هما محلان ما للناس غيرهما
فاختر لنفسك أي الدار تختار
والديار أربعة: كل دار لها خصائصها:
الأول: دار الأجنة، وهي دار لا تكليف فيها.
والثانية: دار الدنيا، وهي دار التكليف والابتلاء
والثالثة: دار البرزخ، وسميت بذلك لأنها هي البرزخ أي الفاصل بين الدنيا والآخرة.
والرابعة: هي دار القرار، وهي الدار التي فيها الحساب والجزاء، فيكون الناس فيها فريقين:
فريق في الجنة، وفريق في السعير.
والمرء لا ينبغي أن يتمنى الموت لضر أصابه، أو لخوف ألم به، فإن الدنيا مزرعة للآخرة، وخير الناس من طال أجله وحسن عمله.
وإن كان ولا بد من ذلك فليقل ما أمر الرسول – صلى الله عليه وسلم – بقوله:
"اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي مَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي"
واعلم أنه ليس كل من مات قد استراح، إذ ربما يكون قد مات كافراً أو مات على معصية، فلا ينبغي أن يقول قائل: فلان مات فاستراح، فهذا القول رجم بالغيب، وتقول على الله بلا علم.
ولو أنا إذا متنا تركنا
لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا
ونسأل بعد ذا عن كل شيء
أما قوله صلى الله عليه وسلم في ختام هذا الحديث الجامع لخصال الخير كلها:
"وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ"
فمعناه واضح لا يحتاج منا إلى بيان غير أن لنا هنا وقفة أمام قوله:
"وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا"
فإننا نجد أنفسنا عند التأمل أمام خيارين: دنيا ذاهبة وآخرة آتية، فمن أراد الدنيا شغل بها، ومن أراد الآخرة سعى لها سعيها، وسعيها ترك زينة الدنيا، وهو بيان لقوله تعالى:
{ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا }
(سورة الإسراء:19)
وترك زينة الدنيا ليس معناه الحرمان التام من طيبات الحياة وزينتها، وإنما هو عبارة عن ترك ما يؤدي إلى الإسراف، أو إلى العجب والرياء، والغرور والخيلاء، أو يشغل عن ذكر الله، أو يؤدي إتيانه إلى محرم.
ودليل هذا قوله تعالى:
{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }
(سورة الأعراف: 32- 33)
وقد مضى الكلام عن ذلك بشيء من التفصيل في حديث:
"ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عند النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاس"
والقاعدة الجامعة التي نستوحيها من هذا الحديث هي: ألا يراك الله حيث نهاك، ولا يفتقدك حيث أمرك، فهذا هو الحياء حقاً.
فمن كان حاله مع الله موافقاً لهذه القاعدة فقد استحيا من الله حق الحياء، وبذلك يكون قد أتى الدنيا من قرونها، وأخضعها لصلاح أمره في معاشه ومعاده، ووفى نفسه من شحها، وشرها، وأشرها، وبطرها، وردها إلى خالقها مطمئنة راضية مرضية.
ومن عرف نفسه عرف ربه، ومن عرف ربه استحيا منه، ومن استحيا منه، ومن استحيا منه لزم طاعته، ومن لزم طاعته أحبه، ومن أحبه أرضاه وجعل الجنة مثواه.
{ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}
(سورة آل عمران 8)