عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ
عَن أبي أُمَامة الشَّعْبَانِيُّ قَالَ:
سَأَلْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ – رضي الله عنه قال: فَقُلْتُ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ كَيْفَ تَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بَلْ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى إِذَا رَأَيْتم شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِنَفْسِكَ وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ الصَّبْرُ فِيهن مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكم"
تقدم القول في تأويل قوله تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ }
(سورة المائدة: 105)
وتقدم هذا الحديث هناك، وهنا بسطه وتفسيره وبيان معانيه ومراميه بما يفتح الله به علينا.
وأحاديث الفتن كثيرة، والوصايا النبوية في مواجهتها عند حدوثها لا تكاد تحصى، فالرسول صلى الله عليه وسلم رءوف رحيم بالمؤمنين، يخشى عليهم أن يصيبهم في دينهم فتنة تعكر صفو إيمانهم، أو يجدون فيها ما يحرجهم ويشق عليهم احتماله، فكان صلى الله عليه وسلم يخبرهم بما وقع في الأمم السابقة وما سيقع بعده من الأمور التي ينكرونها.
وكان أصحابه يسألونه عما سيقع في آخر الزمان فيجيبهم عما سألواعنه، ويزيدهم علماً فيما لم يسألوا عنه، وقد كان بعض أصحابه يحرص على حفظ ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في الفتن، ويحدث الناس بها كحذيفة بن اليمان، وأبي ثعلبة الخشنى راوي هذا الحديث، وغيرهما.
ونحن أحوج ما يكون إلى معرفة الفتن التي نبأنا بها الله ورسوله لنكون على وعي بها ونحفظ منها، وأخذ الأهبة لمواجهتها، أو الفرار منها.
وهذا الحديث واحد من الأحاديث التي ينبغي علينا أن نضعها نصب أعيننا، فنفقه معناها، ونقف على ما تهدف إليه، وتشير به، فالمؤمن القوي حريص على صيانة دينه وعرضه من الأهواء الجامحة والتيارات المنحرفة.
فهو ذو قلب يقظ، وضمير حي، وبصيرة نافذة، وحس مرهف، يتوقع الأمر قبل حدوثه، ويرى عواقبه بنور الله تعالى، فبعد العدة لاستقباله على النحو الذي يحبه ربه ويرضاه، ويتصرف وفق الظروف والأحوال، فيلبس لكل حالة لبوسها، فإذا ما أضاف إلى ما لديه من هذه الخصائص أخبار الصادق المصدوق كان أشد يقظة، وأقوى حرصاً، وأملك لزمام نفسه، وأشد تمكناً من التوقي، وأبعد عن كل ما يسوؤه في دينه ودنياه.
فإذا وقعت الفتن وأصيب الناس بويلاتها وجب على كل مؤمن يأتمر بالمعروف، وينتهي عن المنكر بقدر طاقته، بمعنى: أنه يظل مستمسكاً بدينه، معتصماً بالله، مستنصرا به في كل موطن يخشى فيه على نفسه من الفتنة في دينه أو عرضه.
ولا بأس أن يختلط بالناس، على ما بينهم من فساد، وعلى ما هم فيه من فوضى واستبداد واستخفاف بأمور الدين، ما دام قادراً على حماية نفسه مما يتأتي منهم من الأذى، وليحسب أجره على الله إن أمر بمعروف أو نهى عن منكر، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب عليه ما لم يعجز عنه، كما تقدم بيانه في الحديث السابق.
وقد وضع الرسول صلى الله عليه وسلم لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شروطاً فقال: "حَتَّى إِذَا رَأَيْتم شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً ... إلخ"
والشح: هو البخل الشديد مع الحرص على طلب الدنيا والاستماتة في جمع المال، والطمع فيما في أيدي الناس.
هذا هو الشح في اللغة والشرع، وطاعته: أن يتبع الإنسان هوى نفسه وينقاد له إلى حد العبادة، فلا يستجيب إلى ناصح يثنيه عن بخله وجشعه وطمعه، وينطبق عليه قول القائل الشحيح:
يا دينار أعجبتني صفرتك
لولا الملامة قلت جلت قدرتك
وهو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم:
"تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ"، تَعِسَ وانتكس، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ"
والهوى المتبع أعم من الشح المطاع؛ لأن الشح قاصر على طلب الدنيا، وكنز المال، والحرص على تنميته، وعدم التبرع به لأحد ولو كان من أقرب المقربين، وعدم الاستعداد إلى معونة إنسان بأي جهد مادي أو معنوي، بخلاف الهوى المتبع فإنه استغراق تام في الشهوات والملذات، والفواحش والمنكرات، دون وازع من دين أو ضمير.
والشحيح قد يتوب الله عليه من الشح فيتقيه فيقع تحت الوعد الذي جاء في قوله تعالى:
{ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
أما من اتخذ إلهه هواه فكيف يهديه الله!، إنه قد ضل الطريق إلى الله، وهوت به الشياطين إلى مكان سحيق.
قال تعالى:
{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ }
(سورة الجاثية: 23)
وقال تعالى:
{ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا }
(سورة الفرقان: 43- 44)
وقوله صلى الله عليه وسلم:
"ودنيا مؤثرة"
أي مفضلة عند طلابها يؤثرونها على الآخرة ويحرصون على جمع حطامها، فهولاء لا تنفعهم المواعظ؛ فقد قست قلوبهم، وفسدت عقولهم، وأسلموا قيادهم للشيطان.
يضاف إلى هذه الشروط التي يترك عند وقوعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- إعجاب كل ذي رأي برأيه، فهو الغرور يعينه، والغرور هو الهزيمة الأبدية التي لا نصر بعدها، وهو الكبر بحذافيره، والمتكبر لا تقوم له قائمة، ولا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً، فكيف يقبل النصح من ملأ الزهو قلبه، ونبذ مبدأ الشورى وراء ظهره، وهو من أعظم المبادئ التي لا تشقى البلاد به، ولا يستقيم أمر العباد بدونه.
ولذلك أوصى النبي صلى الله عليه وسلم كل مؤمن عندئذ أن يلزم نفسه، فيصلح من شأنه، ويترك العوام الذين أعمتهم الدنيا، وأضلتهم أنفسهم، واستحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، فجعلوا المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، واعتبروا التمسك بالدين رجعية وتخلفاً، فلماذا يشغل المؤمن نفسه بهم؟ ولماذا يذكرهم بالله وهم أبعد ما يكون عن الذكرى؟.
يقول الله عز وجل:
{ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}
(سورة الذاريات: 55)
ويقول سبحانه:
{ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا }
(سورة الأعلى: 9- 13)
فالأشقى هو الأبعد عن الحق الذي يتجنب الذكرى، ويصم أذنيه عن سماع كل ما يصده عن هواه.
وقد ختم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الوصية ببشرى عظيمة يجد فيها المؤمن الروح والإيمان، ويستهين من أجلها بالشدائد الجسام، فيقول عليه الصلاة والسلام – معللاً هذه الوصية:
"فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَاً الصَّبْرِ"
أي من أمامكم فهي ستأتي تباعاً، وهذا كقوله تعالى:
{ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا }
(سورة الإنسان: 27)
أي أمامهم، وهو يوم القيامة.
وهذه الأيام هي أيام الفتن التي تموج موج البحر، ولذلك سميت بأيام الصبر، أي الأيام التي لا ينفع فيها إلا الصبر حين لا يجد الداعي إلى الخير من يسمعه ويطيعه، بل يجد من يدفعه ويردعه وقد يقتله، وهو لا يبالي.
ولذلك كان الصبر في هذه الأيام مثل القبض على الجمر، وهو تصوير لشدته البالغة حداً لا يطيقه إلا أولو العزم من خيرة الرجال.
ولهذا أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن للعامل فيهن مثل أجر خمسين من أصحابه صلى الله عليه وسلم.
وقد جاء في رواية أبي داود أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عندما سمعوه يقول:
"لِلْعَامِلِ فِيهِن مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا" قالوا متعجبين لا حاقدين ولا حاسدين: أجر خمسين رجلاً منا، أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين رجلا منكم يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكم"
والثواب على قدر المشقة، وليس معنى هذا أنهم سيكونون خيراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على الإطلاق، ولكن صبرهم على المكاره لما كان مثل صبرهم على الجمر ضوعف لهم الأجر على هذا الصبر، ويكون للصحابة سبل أخرى يحصلون منها على أجر أكبر وحظ أوفر، ويكفي أنهم أنصار النبي صلى الله عليه وسلم وحوارييه وخاصته، وقد أشاد القرآن بذكرهم، ونوه الرسول صلى الله عليه وسلم بفضلهم، ولهم في سبل الخير مجال لا يدانيهم فيها أحد سواهم.
والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم