تَفَسَّحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ
عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
"لَا يُقِيمن أحدكم رَّجُلاً مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ وَلَكِنْ وَتَوَسَّعُوا افْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ"
من الآداب السامية التي يُراعيها المسلم ويعمل على نشرها بين إخوانه حيث كان أدب المجالس، وهو آدب يقوم على خمس قواعد أساسية، وما سواها من القواعد الفرعية تتبع لها.
وما ورد في هذا الأدب من الأحاديث فإنما هي بيان وتفصيل لقوله في سورة المجادلة:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }
(سورة المجادلة: 11)
وقد كان العرب في الجاهلية لا يعرفون هذه الآداب، ولو عرفوها ما التزموها؛ لأن الالتزام يفرضه الإيمان، ولهذا خاطب الله المؤمنين بقوله:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا }
فهم الذين يمتثلون أوامر الله، ويجتنبون نواهيه، ويقتدون بالرسول صلى الله عليه وسلم في عاداته وعباداته، وشأنه كله ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
وقد نزلت هذه الآية في مجالس الذكر، كما يقول قتادة وغيره، وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلاً ضنوا بمجالسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض.
والمعنى: يا من آمنتم بالله حق الإيمان: إذا قيل لكم توسعوا في مجالسهم لتسع أكبر قدر من إخوانكم فامتثلوا واستجيبوا؛ لأن فعلكم هذا يؤدي إلى أن يفسح الله تعالى لكم في رحمته، وفي منازلكم في الجنة، وفي كل شيء تحبونه.
والحديث الذي نحن بصدده دعوة لأصحاب المروءات أن يجل بعضهم بعضاً في المجالس، فلا يقيم أحدهم أخاه من مجلسه الذي أحرزه لنفسه بالجلوس فيه ثم يجلس مكانه، فإن ذلك عدوان عليه، وإحراج له، وفي من الأثرة ما لا يحبه الله ورسوله.
وكان من الأولى أن يوثر أخاه بمجلسه فيقوم ويجلسه لا أن يقيمه من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن من الممكن أن يفسح الجالس لأخيه إذا رآه وافقاً ويوسع له حتى يتمكن من الجلوس بجواره إن وجد لذلك سبيلا.
فإن فعل أفسح الله له في الدنيا وفي الآخرة،
فإنه مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكَانَ اللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدُ، مَا كَان الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ
ولا شك أن ذلك سيسعده ويدخل السرور عليه ويشعر بأن أخاه الذي أفسح له رجل ذو مرءوة وإحسان، فيحبه ويضمر في نفسه أن يفعل معه مثلما فعل إذا أقبل على مجلس هو فيه.
والخير يبقى وإن طال الزمان به
والشر أخبث ما أوعيت من زاد
وقال آخر:
ازرع جميلا ولو في غير موضعه
فلن يضيع جميل أينما زرعا.
وقال آخر:
من يصنع المعروف لا يعدم جواز به
لا يضيع العرف بين الله والناس
وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقام له رجل آخر من مجلسه، فذهب ليجلس فيه، فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى مسلم وأبو داود عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أَن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ أَوْ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ"
وروى أبو داود عن جابر بن سمرة – رضي الله عنهما – قال:
"أَتَيْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ أَحَدُنَا حَيْثُ يَنْتَهِي"
وروى أبو داود والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لَا يَجْلِسُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ إِلَّا بِإِذْنِهِمَا"
من الآية والأحاديث نستطيع أن نستخلص القواعد الخمسة التي تندرج تحتها الأحكام الفرعية، من هذا الباب.
القاعدة الأولى: التفسح في المجالس واجبٌ ما لم تكم هناك ضرورة.
وذلك بألا تكون هناك فرجة تتسع لجلوس رجل آخر فعندئذ يظل الرجل واقفاً إن أراد أو ينصرف.
القاعدة الثانية: توقير الصغير للكبير واجب في مثل هذا الباب.
وذلك بأن الرجل إذا وجد رجلاً قد أخذت منه السن مأخذاً وهو في حاجة إلى حضور المجلس لطلب العلم أو لسماع الذكر – قام وأجلسه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:
"لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَلم وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا"
وكذلك أولو العلم يجب على الناس توقيرهم وإجلالهم وإيثارهم بالمجالس الأمامية.
القاعدة الثالثة: صاحب المجلس أحق به إن عاد إليه.
وذلك بأن وضع في المكان ما يدل القادم على عودته، كأن يضع ثوباً أو كتاباً وما أشبه ذلك؛ فإن المجالس العامة لا تملك إلا إذا قضى العرف بذلك، أو كان المجلس مستأجراً.
القاعدة الرابعة: إذا أمر أمير القوم رجلاً بالقيام لرجل آخر وجب عليه أن يقوم.
وذلك عملاً بقوله تعالى:
{ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا }
(سورة المجادلة: 11)
أي وإذا قيل: ارفعوا عن مجالسهم فارفعوا – هذا هو المتبادر من السياق – ولكنه أمر عام ينبغي أن يحمل على عمومه، فيكون المعنى: أجيبوا إذا دعيتم إلى أمر بمعروف.
قال القرطبي: وهذا هو الصحيح لأنه يعم.
والنشز معناه: الارتفاع، مأخوذ من نشز الأرض، وهو ارتفاعها.
القاعدة الخامسة: يجلس الرجل حيث انتهى به المجلس لا يزاحم الناس.
وذلك لأن في المزاحمة إيذاء لا حاجة إليه ما دام في الموضع مكان متبق ولقوله جابر بن سمرة في الحديث المتقدم:
"كُنا إذا أَتَيْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ أَحَدُنَا حَيْثُ يَنْتَهِي"
ولقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبالغون في مراعاة هذه الآداب ولا سيما مع كبارهم وعلمائهم.
فقد ورد في الصحيح أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – كان يقدم عبد الله بن عباس على الصحابة، فكلموه في ذلك فدعاهم ودعاه، وسألهم عن تفسير:
{ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ }
(سورة النصر: 1)
ولقد غرس النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه هذا التسامح وهذا الإيثار، وهذا الحب المتبادل بأفعاله قبل أقواله.
فقد جاء في سبب نزول الآية السابقة – ما روى ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان – أنها نزلت يوم جُمُعة وكان رسول صلى الله عليه وسلم يؤمئذ في الصفة، وفي المكان ضيق، وكان يُكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء أناس من أهل بدر وقد سُبِقوا إلى المجالس، فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فرد النبي صلى الله عليهم. ثم سلموا على القوم بعد ذلك، فردوا عليهم، فقاموا على أرجلهم ينتظرون إن يوسع لهم، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام، فلم يُفسَح لهم، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار، من غير أهل بدر:
"قُم يا فُلَان، وأَنتَ يَا فُلَان"
فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه من المهاجرين والأنصار أهل بدر، فشق ذلك على ما أقيم من مجلسه، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجوههم.
فقال المنافقون: ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟، الله ما رأيناه قبل عدل على هؤلاء، إن قوماً أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب لنبيهم، فأقاموا وأجلس من أبطأ عنه.
فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"رحم الله رجلاً فسح لأخيه"
فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعاً، فتفسح القوم لإخوانهم".
قال ابن كثير: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس حيث انتهى به المجلس، ولكن حيث يجلس يكون صدر ذلك المجلس، وكان الصحابة – رضي الله عنهم – يجلسون منه على مراتبهم، فالصديق يجلس عن يمينه، وعمر عن يساره، وبين يديه غالباً عثمان وعلي؛ لأنهما كانا ممن يكتب الوحي، وكان يأمرهم بذلك والله أعلم.