لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ – رضي الله عنه – قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ:
"لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارِ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ".
التشدد في الدين أخطر من التهاون فيه، أو قل: هما سواء. فالتفريط والإفراط عدوان للوسطية، وهي العدل في كل شيء.
والتشدد على النفس من غير داع يقتضيه قسوة لا مبرر لها، ومصادرة لخصائص الإسلام التي مضى ذكرها، وهي اليسر ورفع الحرج، ودفع المشقة، وقلة التكاليف.
والتشدد على الناس ظلم لهم وعدوان عليهم، ومخالفة لميزان العدل الذي جاء به هذا الدين في تشريعاته كلها.
وأنواع التشدد لا تحصى، ومع كثرتها تندرج كلها تحت أصلين:
الأول: الغلو في الدين بقصد المبالغة في التعبد، فهذا الغلو شر كله وبدعة أنكرتها الشرائع السماوية بوجه عام، والشريعة المحمدية بوجه خاص.
"وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ"
كما جاء في الحديث الذي سبق بيانه في هذا الكتاب- .
والثاني: القسوة المفتعلة المفضية إلى ما يصادم الدين ويفرق بين المحبين.
وقد عرفنا فيما سبق أن الإسلام يعامل الناس بشدة لا عنف فيها، ويلين لا ضعف فيه.
وكان الرسول – صلى الله عليه وسلم- إذا خير بين أمرين اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً – كما جاء في الحديث الصحيح- .
وكان – صلى الله عليه وسلم – ينهي أصحابه كثيراً عن المبالغة في التعبد والتكلف له لما في ذلك من الحرج والفتنة؛ فإن للإنسان طاقة إذا استنفدها أو كاد يستنفدها فإنه يتبرم مما كان السبب في ذلك الحرج، فينقطع عن العمل انقطاعاً تاماً، وربما لا يعود إليه أبداً، وربما ينقطع عن أعمال كثيرة كانت أنفع له في الدنيا والآخرة، وكانت أحب إلى الله من العمل الذي بالغ فيه حتى وصل به إلى هذا الحد.
وكان أحب شيء إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – العمل الدائم وإن قل، ولكي يكون العمل دائماً لابد أن يكون محتملاً وفي حدود الطاقة واليسر.
وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحرصون كل الحرص على أن يقتدوا به في عباداته، فيقومون الليل معه مهما طال بهم القيام، وفيهم الضعيف والسقيم وذو الحاجة، فأشفق عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأمرهم أن يكلفوا من الأعمال ما يطيقونه، مذكراً لهم بما قاله رب العزة – جل وعلا- في سورة المزمل:
{ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا }
(آية: 20).
ورأوه يواصل الصوم فواصلوا معه؛ ونهاهم عن ذلك لكنهم لم ينتهوا حباً في الله واقتداء به، ظناً منهم أن النهي إنما كان للإشفاق عليهم وليس للتحريم.
فلما رآهم وأصلوا واصل بهم كالمنكل بهم، أي كالمعاقب لهم على هذا التشدد وقال:
"أيكم مثلي فَإني أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي".
ومن بينهم رجال كثيرون ونساء كثيرات كانوا يشددون على أنفسهم فنهاهم عن ذلك، فدل النهي على أن التشدد في الدين ليس أمراً محموداً ولا مقصوداً، وإنما المقصود هو الاعتدال، وبذل الجهد بقدر الطاقة من غير تكلف ولا اعتساف.
وأخطر ما في التشدد فوق ما ذكرناه هو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ" وهو أخوف ما كان يخاف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان ينهي عن كثرة الأسئلة التي يخشى منها أن تجلب عليهم الهلكة كما جلبتها على الأمم السابقة.
قال عليه الصلاة والسلام:
"فَإِنَّمَا أهَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثرة سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ".
وقد مضى بيان هذا الحديث بالتفصيل.
وحديث الثلاثة الذين ذهبوا إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم لسألوا عن عبادته فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها.
فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فقال أحدهم:
أَمَّا أَنَّا فَأَقُوم الليل وَلَا أرقد، وَقَالَ الآخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ ولا أفطر، وَقَالَ الآخرُ: وأنا لا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ.
فَلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم مقالتهم. قَالَ:
"أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَإني وَأَتْقَاكُمْ لَلهُ، وَأَخْشَاكُمْ، وَلَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُقوم وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ. فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي".
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما وقع للذين شددوا على أنفسهم من الأمم السابقة كرهبان النصاري الذين أخذوا أنفسهم بالشدة والقسوة وبالغوا في الانقطاع إلى الله تعالى، وفرضوا على أنفسهم طقوساً خاصة وعبادات لم تفرض عليهم فوقعوا في الحرج، وكلوا وملوا ولم يوفوا بما عاهدوا الله إلا القليل منهم.
وقد شدد الله عليهم فأوجب عليهم الرهبانية التي ابتدعوها وأوجبرها على أنفسهم كالمنكل بهم، وإن كانوا قد فعلوا ذلك ابتغاء رضوانه، لأن الله – عز وجل – يرضيه من عباده أن يشكروه ولا يكفروه، وأن يفعلوا ما أمروا به ويجتنبوا ما نهوا عنه من غير زيادة ولا نقصان، ومن غير أن يعذبوا أنفسهم بعبادات ابتدعوها وهم لا يعلمون أن الله غنى عنهم وعن عبادتهم، لا تنفعه طاعتهم ولا تضره معصيتهم، ولو كانوا يعلمون ذلك ما انقطعوا في الصوامع ولا لجأوا إلى الكهنوت الذي أذهب دينهم ودنياهم.
قال الله تعالى:
{ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا }
(سورة النساء: 147).
"فتلك بقاياهم في الصوامع والديار
{ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ }
(سورة الحديد: 27).
يشير النبي صلى الله عليه وسلم بهذا إلى ما يجده المسلمون من الصوامع التي قد صنعها الرهبان في الطرقات والجبال، والأديرة التي أقاموها في الشام والعراق وغيرهما من البلدان، وهي أمور زائدة على ما أمروا به، لا ينبغي أن نكون نحن المسلمين على غرارهم في هذا التحنث المشوب بالتكلف. فديننا يأمرنا بأن نسير في الأرض ونمشي في مناكبها ونتخذ لنا فيها مستقراً كريما نجد فيه ما نشبع به رغباتنا المحمودة من الكسب الحلال بالعمل المتواصل والجد المشكور، فنجمع بين مطالب الدين والدنيا معاً.
فما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا
لا بارك الله في دنيا بلا دين
ووظيفة الإنسان في الأرض معروفة فقد خلقه الله لعمارتها وإصلاحها وإخراج ما يحتاج إليه منها، وهذه هي العبادة في ناحية من نواحيها إذ إن العبادة ليست مقصورة على الصلاة والصيام، والزكاة والحج، والذكر- ولكنها تتسع في مفهومها اللغوي والديني لكل ما يتعلق بشئون الحياة في حدود ما أمر الله به ونهى عنه – كما سيأتي بيانه في أحاديث أخرى من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
وبقي لنا في هذا الحديث أن نفهم قوله تعالى:
{ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ }
(سورة الحديد: 27).
الآية تشير إلى اتباع عيسى – عليه السلام – فقد كانوا من أنصاره إلى الله وفقهم الله لطاعته، وجعل في قلوبهم رأفة ورحمة، فكانوا من أرق الناس قلوباً وأهداهم سبيلاً، ثم خلف من بعدهم قوم زادوا في الدين ونقصوا منه وغيروا وبدلوا، وكان منهم من يتمسك بدينه ويبالغ في ذلك إلى الحد الذي جعله ينقطع في الصوامع بعيداً عن الناس وضجيجهم فعرفوا بالرهبان.
والرهبان جمع راهب، ومعناه: الخائف من الله تعالى، المشفق على نفسه من عذابه. والرهبانية وصف مشتق من الرَهَب، وهو شدة الخوف، كما يدل عليه قوله تعالى – حكاية عن زكريا – عليه السلام – وزوجه والصالحين من قومه:
{ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ }
(سورة الأنبياء: 90).
وهذه الرهبانية لم تكن في عهد عيسى – عليه السلام – بل هي مما ابتدعها من بعده – كما تشير الآية – فحرموا على أنفسهم ما أحل الله لهم من الطيبات والتزوج بالنساء ومعاشرة الناس وغير ذلك.
فقوله تعالى:
{ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا }
جملة مستأنفة وليست معطوفة على قوله تعالى:
{ رَأْفَةً وَرَحْمَةً }
لأن الرهبانية لم تكن مما شرع الله لهم، فلا يستقيم كونها مفعولاً "لجعلنا" – كما قلنا - .
فهم قد ابتدعوها تقرباً إلى الله تعالى، ومبالغة في التمسك بالدين، وغلواً فيه، مع أن الدين الذي ارتضاه الله لعباده يسر كله، فالله – جل جلاله – لم يكلف عباده بما لا طاقة لهم به، ولا قدرة لهم على تحمله، ولهذا قصر أولئك الرهبان في هذه الرهبانية تقصيراً متفاوتاً بحسب قدراتهم، فكان منهم المحسن والمسيء.
وقوله تعالى:
{ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا }
يدل على أنهم رعوها رعاية فيها تقصير أو غلو، وكلاهما لا يحمدون عليه، فالأول تفريط، والثاني إفراط والفضيلة وسط بينهما.
والمعنى: فما رعوها الرعاية الحق، فقدم الحق وأضاف إليه الرعاية للدلالة على نفي حق الرعاية بأبلغ أسلوب، وإثبات تقصيرهم في ذلك، مع التزامهم البعض دون البعض.
لهذا جاء قوله تعالى:
{ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ }.
فالمؤمنون فريق منهم، وهم الأقلون، والكافرون منهم كثير، وهم الذين زعموا أن عيسى ابن مريم، أو هو الله نفسه، أو الإله ثالث ثلاثة: الأب، والابن، وروح القدس.
ففي الآية ثناء على المؤمنين منهم، وهم الذين لم يغيروا في الدين، ولم يحرفوا الكلم عن مواضعه، بل كانوا أنصار الله، يدعون إليه بدعوة عيسى ابن مريم، وفيها ذم لأولئك الذين مرقوا عن الدين أو زادوا فيه، أو نقصوا منه، أو بالغوا في الرهبانية حتى خرخوا عن حد الاعتدال، فملوها ورجعوا إلى أسوأ ما كانوا عليه، فكانوا كما قال العرب في أمثالهم: "إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهر أبقى".
وهذا مثل لمن يبالغ في الأمر ويتعجله ويتكلف السعي لتحقيقه، أو الوصول إليه، فيهلك نفسه ودابته، دون أن يصل إلى ما يصبو إليه.
وهذا الحديث وما في معناه من الأحاديث تحذر من التشدد في الدين، والتنطع في الدعوة إليه، وتنهى عن الابتداع فيه، وترد المؤمنين إلى التيسير والسداد، كلما جمحت بهم الأهواء إلى التعسير والشطط، وانحرفت بهم الشياطين باسم الدين عن محجته البيضاء، وطريقه المستقيم، إلى سُبُل معوجه إذا ولجوها لم يستطيعوا الخروج منها.
فهذه الأحاديث جرت على سنن القرآن في هداية الناس إلى التوسط في الأمور، والسداد في الأقوال والأفعال، والسير على الصراط المستقيم.
فقد قال الله – عز وجل – في سورة البقرة:
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا }
(آية 143).
أي خياراً عدولاً، تلتزمون العدل في عباداتكم ومعاملاتكم، وعاداتكم.
وقال – جل شأنه – في سورة الأنعام:
{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
(آية: 153).
وقال – جل شأنه – في سورة الملك:
{ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }
(آية: 22).