عَليكَ بِالْيَأْسَ مَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ
عَن سعيد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رجل قَالَ: يَا رسول، أوصيني وأوجز , فقال:
"عليك باليأس مما في أيدي الناس فإنه الغنى، وإياك والطمع فإنه الفقر الحاضر، وصل صلاتك وأنت مودع، وإياك وما يعتذر منه"
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم الكلمة فتقع من القلوب موقع الحكمة، وتجري بين الأجيال مجرى المثل، وتصادف قبولاً حسناً عند الخاصة والعامة من المسلمين وغيرهم؛ لأنه قد أوتى جوامع الكلم، وانطقه الله بالحق الذي لا يختلف عليه اثنان من العقلاء، وهو رسول الإنسانية يهدي بإذن الله إلى الصراط المستقيم في القول والعمل.
كلامه منهج حياة، ودستور أمة، وميثاق شرف، يحتكم إليه الناس في جميع أمورهم الدينية وجميع شئونهم الدنيوية، ولا يجدون في حكمه حرجاً ولا عنتاً بل لا يسعهم إلا التسليم به في طمأنينة وإجلال.
ولقد كان أصحابه يسألونه عما يعن لهم فيجدون عنده الجواب الحكيم لكل سؤال له ما بعده، بأن كان فيه صلاح للفرد وقوام للمجتمع.
وكانوا يفرحون بقدوم الأعراب عليهم لجرأتهم على السؤال فيما يعني وفيما لا يعني، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يجيب على أسئلتهم بالرحب والسعة ولا يسفه رجلاً في أي سؤال سأله تحلماً وتكرماً وتقديراً منه لحال الأعراب، فهم أهل بداوة يجهلون الكثير والكثير من أمور الدنيا فضلاً عن أمور الدين.
ولذلك كان يأتي الرجل منهم مجادلاً بالباطل أحياناً، ويقول قولاً لا ينبغي أن يقال، ويرتفع صوته في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يبالي بمن يخاطب، فيتلقاه النبي صلى الله عليه وسلم بوجه طلق وكلام سمح، ويعطيه العطاء الجزل حتى يرضيه، ويدخل في الإسلام بقلبه ولسانه، ويعمل فيه بكامل قوته، وينضم في سلك المجاهدين في سبيل الله، فيحسن إسلامخ، ويقوي إيمانه، ويصدق في الله يقينه، فيزهد في الدنيا، ويرغب في الآخرة، فيسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الطريقة المثلى التي يتعامل بها مع الناس حتى لا يظلم أو يظلم، أو يضل أو يضل، أو يذل أو يذل، وعن الطريقة المثلى التي تقربه إلى الله تعالى، وتدخله الجنة بغير حساب.
هذا رجل منهم يقول: "يا رسول أوصني وأوجز".
ولماذا قال: وأوجز؛ لأن الإيجاز ضرب من الإعجاز البياني، فهو يحمل من المعاني الكثيرة في طيات ألفاظ قليلة تحفظ بسهولة ويسر، ولا تكاد تنسى لعذوبتها وبلاغتها.
والإيجاز من أبلغ الأساليب وأوقعها في النفوس، وهو أسلوب القرآن الكريم، وأسلوب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أقواله مع أفعاله ببيان لهذا الكتاب المبين.
ومن المعلوم أن كلام الله يخالف كلام البشر من جميع الوجوه، فلا موازنة ولا معادلة ولا مفاضلة بين كلام الله وكلام الناس.
وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم في الذروة العليا من كلام البشر، فكلامه صلى الله عليه وسلم له عطر متميز، وسمت خاص، ووقع مؤثر لا يدانيه في كلام سائر البشر.
ولهذا أمره – عز وجل – أن يخاطب الناس على قدر عقولهم كلاماً يبلغ في القلوب مبلغاً لا يبلغه كلام غيره، فقال في سورة النساء:
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا }
(سورة النساء: 63)
ولولا أن الله أقدره على ذلك ما أمره بذلك.
وأول شيء أوصاه به الرسول صلى الله عليه وسلم هو: اليأس مما في أيدي الناس، أي قطع الطمع تماماً عما في أيديهم مما لا حق له فيه، زهداً في الدنيا ورغبة في الآخرة.
وقد مر بنا حديث:
"ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عند النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاس"
لكننا تجد في هذه الوصية ما هو أقوى من الزهد، وهو اليأس مما في أيدي الناس، وماله حتماً إلى الطمع فيما عند الله، (وبضدها تتميز الأشياء).
فقوله صلى الله عليه وسلم:
"عَليكَ بِالْيَأْسَ مَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ"
أي ألزمه ولا تفارقه، ولا تحدث نفسك أن تسأل الناس شيئاً، وتوكل على الله وحده، وثق بفضله، وخذ بالأسباب التي ليس فيها جرح للمشاعر أو إذهاب لشيء من التعفف، واحفظ على نفسك كرامتها بالقناعة والرضا بالقليل مع الصبر والشكر، وضع نصب عينيك قوله تعالى:
{ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ }
(سورة النساء: 32 )
وقوله جل وعلا:
{ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ }
(سورة الطلاق: 3)
إلى غير ذلك من الآيات التي هي في معناها.
واعلم أن من اعتمد على الناس وكله الله إليهم، ومن توكل عليه كفاه، فسل الله – عز وجل – ألا يكلك لنفسك طرفة عين.
وانظر كيف جعل النبي صلى الله عليه وسلم اليأس مما في أيدي الناس هو الغنى الكامل، لأن "أل" حرف كمال كما يقول علماء اللغة.
وسل نفسك كيف يكون اليأس مما في أيدي الناس هو الغنى الكامل، أو الغنى الحق، أو الغنى الذي ما بعده غنى؟ فإنك ستجد الجواب حاضراً لديك نقلاً وعقلاً، أما النقل فمنه ما قد ذكر آنفاً مع هذا الحديث وغيره من الأحاديث الدالة على هذا المعنى، وأما العقل، فإنه لو كان واعياً منصفاً ما دل صاحبه إلا على الله، وما حمله إلا على التوكل عليه، أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، فقد ضربوا في التعفف عما في أيدي الناس أروع الأمثال، ولم يكن لهم في الورع مثال، وهم من نبيهم بمنزلة النجوم من الأقمار.
وقد زاده النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الوصية وصية أخرى تؤكدها في نفسه، وتغرسها في طبعه، فيقول:
"وإياك والطمع فإنه الفقر الحاضر"
والطمع هو: السعي إلى جمع المال وطلب الجاه والمنصب بدافع الرغبة الملحة في إرضاء النفس وإسعادها.
وفي الطمع مذلة لصاحبه وصغار، وفيه تحطيم لمعنوياته وإذهاب لإنسانيته، وتقليص لشخصه وهويته، وفيه ضياع للدين، ومحق للبركة، وزوال للنعمة، فهو الفقر الحاضر حقاً.
ليس فقراً في المال فحسب؛ بل هو فقر في كل شيء حسي ومعنوي، وقد جاء في الأثر:
"مَنْ جَعَل الدُّنْيَا مبلغ هَمَّهُ شَتت اللَّهُ شَمْلَهُ، وجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَلَمْ يَأْتِيهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ وَمَنْ جَعَلَ الْآخِرَةُ مبلغ هَمَّهُ جَمَعَ اللَّهُ شَمْلَهُ وَجَعَل غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ"
لقد هممت يوماً أن أفعل شيئاً أحصل من ورائه على مال كثير لكن كان في هذا العمل شبهة، فجلست أفكر ثم ناولت ابنتي كتاب "عيون الأخبار".
لتقرأ لي فيه ما شاء الله أن تقرأ، فإذا هي تقرأ أبياتاً كانت هي أول ما وقع بصرها عليه، فوعظتني هذه الأبيات وعظاً بليغاً:
حسبي بعلمي ما نفع ما الذل إلا في الطمع
من راقب الله نـــزع عن قبح ما كان صنع
ما طار طير وارتفع إلا كمــا طـــار وقــع
ثم قرأت بيتاً آخر أبلغ من هذه الأبيات:
نرفع دنيانا بتمزيق ديننا
فلا ديننا يبقى ولا ما نُرفع
الوصية الثالثة في هذا الحديث تكملة وتوكيد للوصيتين السابقتين مع إضافة أخرى وهي الخشوع في الصلاة.
فالمسلم لكي تهون عليه الدنيا ويزهد فيها، ويعف نفسه عما في أيدي الناس ينبغي أن يصلي الصلاة وكأنها آخر صلاة يصليها، وذلك يذكر الموت قبل أن يدخلها، فإذا اعتبر أنها آخر صلاة يصليها خشع فيها، وابتعدت عنه هواجس النفس ووساوس الشيطان، وبالغ في تأديتها على الوجه المرضي، فأطال القراءة والركوع والسجود، وأكثر من الدعاء وألح فيه وهو بين الرجاء والخوف.
وصلاة كهذه تنهى صاحبها – ولابد – عن الفحشاء والمنكر، بمعنى أنها تقوي إيمانه بالله، فيحمله الإيمان القوي على مخالفة الشيطان والهوى.
أما الصلاة التي تخلو من الخشوع والدعاء الخالص، ولا يكاد صاحبها يذكر منها إلا ربعها أو سدسها فإنها لا تنفعه ولا تُرفع فوق رأسه شبراً، فالخشوع روح الصلاة، فما قيمة الجسد بلا روح!.
{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ }
(سورة المؤمنون: 1-2)
ثم أوصاه بوصية رابعة محذراً إياه من الوقوع فيما يحمله على الأسف والاعتذار، فإن العاقل هو الذي يفكر في القول قبل أن يقوله، والفعل قبل أن يفعله، فإن رأى في الكلمة خيراً قالها وإلا حبسها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري وغيره:
"وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ"
وهو تفسير لقوله تعالى:
{ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا }
(سورة الأنعام: 152)
ولقوله تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا }
(الأحزاب: 70-71)
وأن عزم على أمر لا يقدم عليه حتى يعرف حكم الله فيه فإن كان حلالاً أقدم عليه، وإن كان حراماً أحجم عنه.
قال تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
(سورة الحجرات: 1)
أي لا تقدموا على عمل قبل أن تعرفوا فيه حكم الله ورسوله، ولا تقدموا على حكم الله ورسوله حكم العقل؛ فإن العقل كثيراً ما يخطئ وليس لديه للخير والشر ضوابط ثابتة.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم يحذر الرجل من الوقوع فيما يغضب الله وفيما يغضب الناس، فإن الاعتذار قد يكون لله وقد يكون للناس.
والاعتذار لله لا بد منه لأنه توبة، والتوبة واجبة على كل مسلم، ومن شأنه أن يكون مصاحباً لها في جميع أحوالها، فهي أول الطريق ووسطه وآخره، كما قال أهل العلم.
وعلى هذا المفهوم يكون التحذير من الذنوب كبيرها وصغيرها، والمعنى إياك والمعاصي؛ فإنك قد تتمادى فيها فتموت عليها فتدخل النار، وقد تعتذر منها فلا ينفعك الاعتذار، فالأولى ألا تقدم عليها، ولا تقرب ما يؤدي إليها.
وأما الاعتذار إلى الناس فإنه أحياناً يكون محمدة وذلك في الخطأ الذي ثم يتعمده المسلم، فيكون لاعتذاره وجاهة وشأن، فهو إرضاء للناس وتطييب لنفوسهم، وبعفوهم يعفو الله – عز وجل – عنه، لأن الخطأ في حق الناس اعتداء على حقوقهم فإن شاءوا عفواعنها وإن شاءوا طالبو بها، والاعتذار إليهم سبيل إلى التسامح والصفح، وهو دليل على مكارم الأخلاق، فإن اعتذر المخطئ فهو إنسان متواضع، وإن عفا المعتذر إليه فهو حليم كريم.