ارْضَخِي مَا اسْتَطَعْتِ وَلَا تُوعِي
عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ – رضي الله عنها-
أَنَّهَا جَاءَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَيْسَ لِي شَيْءٌ إِلَّا مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ أَرْضَخَ مِمَّا يُدْخِلُ عَلَيَّ؟ فَقَالَ: "ارْضَخِي مَا اسْتَطَعْتِ وَلَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ".
اشتهرت نساء مكة بحبهن لأزواجهن، وحسن تبعلهن لهم، وشدة حرصهن على إرضائهم، وإدخال السرور عليهم، وحفظهن لأموالهم في حضورهم وفي غَيْبَتِهِم.
وجاء الإسلام فزادهن حسناً على حسن، فهذب طباعهن، وعلمهن كيف تحفظ الأمانات، وتصان الحرمات، وتحفظ الأموال، وأحيا فيهن الفطرة السوية، ووضع لهن الحدود التي يقفن عندها، ورسم لهن المعالم التي ينتهين إليها في عباداتهن ومعاملاتهن لأزواجهن على وجه الخصوص، ولغيرهم على وجه العموم. وأسماء بنت أبي بكر – رضي الله عنهما – من الطراز الأول في الخلق الفاضل والسلوك النبيل؛ فقد كانت زوجة مثالية لزوج مثالي.
لقد كانت تعينه في معاشه، وتصبر على شظف العيش معه، وكانت تسوس له فرسه، وتطحن له النوى، وتحمله إليه مسافات بعيدة لتعلفه به.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يراها تمشي على قدميها في شدة القيظ وهي تحمل النوى، فيرق لها ويحنو عليها ويحملها على دابة إن توفرت لديه، ويدعو لها بخير.
وهي التي عُرفت بذات النطاقين؛ لأنها قسمت نطاقها قسمين ليلة أن هاجر النبي – صلى الله عليه وسلم – وأبوها – رضي الله عنه – فانتطقت بنصفه، وحملت لهما الطعام في نصفه الآخر، وصارت خلفهما بأعنامها لتمحو آثارهما، حتى لا يعرف المشركون مكانهما، حتى انتهيا إلى غار ثور.
وكانت تأتيهما بالطعام وبأخبار قريش مدة مكثهما في الغار.ولها من المحامد ما سجله التاريخ في أنصع صفحاته، وسيرتها العطرة جديرة بالبحث والدراسة.
ومن عظيم أمانتها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا السؤال؛ لكيلا تقع في محظور هي في غنى عنه، فأجابها النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا السؤال بقوله:
"ارْضَخِي مَا اسْتَطَعْتِ وَلَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ".
والرضخ: إعطاء القليل من الطعام ونحوه.
وعلى هذا المعنى يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أذن لها في إعطاء القليل الذي يجود به النفس غالباً، ولا يعاتبها عليه زوجها إذا علم به، ولا يضر بمعاشه.
وهي – رضي الله عنها – قد سألته عن الرضخ، فأذن لها فيه، ولو سألته عن الإعطاء مطلقاً لكان الجواب غير الجواب؛ لأن الزوجة لا يجوز لها أن تخرج من مال زوجها إلا بإذنه الصريح أو الضمني، والإذن الضمني ما قضى به العرف، وجرت به العادة.
والكرم شيمة من شيم العرب، ولا سيما قريش؛ فقد كانوا فيه مضرب الأمثال. والناس بعضه لبعض أعوان لا غنى لأحدهم عن الآخر، فلا بد من الأخذ ولا بد من العطاء.
والإسلام دين الإخاء والمحبة والإيثار، فكان لزاماً أن يجود كل واحد على أخيه بشيء مما معه إلى الله، وتودداً إلى أخيه، ووقاية لنفسه من عذاب النار.
وقد أمر الله بالبذل والإنفاق ولم يخص بالأمر الأغنياء دون الفقراء.
وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم:
"اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ".
فماذا عن أسماء بنت أبي بكر – رضي الله عنهما – إذا أعطت القليل من مال زوجها بغير إذنه لجيرانها أو لغيرها من الفقراء على سبيل الصدقة، أو للأغنياء على سبيل الهدية.وقد جاء في الأثر: "تَهَادَوْاتَحَابُّوا".
وروى الطبراني في الأوسط بإسناد لا بأس به عن عائشة – رضي الله عنها – "تَهَادَوْاتَحَابُّوا، وهاجروا تورثوا أولادكم مجداً، وأقيلوا الكرام عثراتهم".
وقد أوصاها النبي – صلى الله عليه وسلم – بوصية ينبغي أن نوليها عناية في تعاملنا مع أسرنا وجيراننا وغيرهم، فقال لها: "وَلَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ".أي: لا تدخري ما عندك وتحبسيه عمن هو في حاجة إليه إذا زاد عن حاجتك "فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ" بأن يقطع عنك بسبب بخلك ما أنت في حاجة إليه؛ فالجزاء من جنس العمل.
والكريم من شأنه أن يعطي العطاء بطيب نفس من غير أن يحصيه على من أعطاه.
وبذلك يكون قريباً من الله قريباً من الجنة بعيداً عن النار.
والمؤمن من يجود بما عنده لمن هو في حاجة إليه من غير توان ولا تقصير، ويغالب نفسه إن أبت عليه ذلك طاعة لله – عز وجل – وهذا ما تقتضيه أخوة الإيمان.
وقد ذكر الإمام الغزالي في كتاب الإحياء أن الأخوة ثلاث درجات أو مراتب: الأولى: أن يعطي الأخ أخاه ما هو في حاجة إليه دون أن يسأله. والثانية: أن يخلط ماله بمال أخيه فلا يسأله كم أخذ ولمَ أخذ. والثالثة: أن يؤثر أخاه على نفسه ولو كانت به خصاصة، أي حاجة ملحة.
فأين نحن من هذه الدرجات؟
والرسول – صلى الله عليه وسلم – في هذه الوصية يشير إلى قوله تعالى:
{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ }
(سورة الرحمن: 60)
وقوله – جل شأنه - :
{ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ }
(سورة سبأ: 39)
وقوله – عز من قائل-:
{ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ }
(سورة محمد: 38).
ويؤخذ من هذا الحديث وجوب حرص الزوجة على مال زوجها، واستفتاء العلماء فيما يجوز لها إنفاقه منه وما لا يجوز
وذلك دليل من أدلة صلاحها وتقواها.
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"مَا اسْتَفَادَ الْمُؤْمِنُ بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ عز وجل خَيْرًا لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ، إِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ، وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ".
ويؤخذ منه أن للمرأة الحق أن تتصرف في مال زوجها بما لا يضره ولا يحرجه ولا يغضبه، وهي فقيهة نفسها في ذلك، والعرف محكم في مثل هذا الأمر.
ويستفاد من هذا الحديث فوق ما تقدم أن المسلم ينبغي أن ينفق ولا يخشى من ذي العرش إقلالاً، فإن من فتح على الناس باباً من أبواب الخير فتح الله له أبواب رحمته في الدنيا والآخرة، ومن أمسك الخير عمن هو في حاجة إليه حبس الله عنه الرزق، فلا يصيب منه إلا نكداً، وعذاب الآخرة أكبر.
نسأل الله السلامة والعافية.