لَا يَحْقِرَنَّ أَحَدُكُمْ شَيْئًا مِنْ الْمَعْرُوفِ

لَا يَحْقِرَنَّ أَحَدُكُمْ شَيْئًا مِنْ الْمَعْرُوفِ

عَنْ أَبِي ذَرٍّ الغفاري قَالَ:  قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

"لَا يَحْقِرَنَّ أَحَدُكُمْ شَيْئًا مِنْ الْمَعْرُوفِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَلْقَ أَخَاهُ بِوَجْهٍ طَلِيقٍ وَإِنْ اشْتَرَيْتَ لَحْمًا أَوْ طَبَخْتَ قِدْرًا فَأَكْثِرْ مَرَقَتَهُ وَاغْرِفْ لِجَارِكَ مِنْهُ".

كان النبي صلى الله عليه وسلم في الجود والسخاء كالريح المرسلة لا يرد سائلاً سأله، ولا يرى محتاجاً إلا أعانه، تلك خليقة من خلائقه لم يتكلفها، فهو الكريم ابن الكرام، لم يدانيه أحد في هذا المضمار، وسحائب جوده لا تحصى، ولا تستقصى.

 لم يمنعه ضيق ذات اليد أن يؤثر أصحابه على نفسه بما هو في أشد الحاجة إليه، حتى كان إيثاره مضرب الأمثال، بل ليس لإيثاره بين الرجال مثال، ولا عرف الناس في تاريخ البشرية من يفري فريه في هذا المجال.

 لهذا كان يوصي أصحابه بأن يقتدوا به صنائع المعروف كلها، كل بقدر طاقته وجهده، دون أن يقول في نفسه: ماذا يغني عني ما أقدمه لأخي فهو لا يسد الرمق ولا يستر العورة، ولا يقضى لبانته في شيء، فإن من أطاع نفسه في ذلك بخل بالقليل والكثير، وتعودت نفسه الشح بما عنده، وأغراه شيطانه بأن يأخذ ولا يعطي، إذ يجعل فقره بين عينيه، ويقول له الشيطان: من أنت حتى تعطى، وما الذي تملكه حتى تجود به؟ وكيف تجود بهذا اليسير فيحتقرك صاحبك، ويسخر منك، وربما غضب عليك وردك بما أعطيته، وربما يقول لك: ما احتاجه بيتك أولى مما احتاجه المسجد، كما يقول العوام – الزيت إن احتاج إليه البيت حرم على الجامع – إلى آخر ما هنالك من الوساوس الشيطانية والهواجس النفسية، والمبررات الكاذبة.

 ولهذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمل الناس على الجود بما عندهم ولو كان نصف تمرة أو حبة عنب ونحو ذلك، فيقول: 

"لَا يَحْقِرَنَّ أَحَدُكُمْ شَيْئًا مِنْ الْمَعْرُوفِ" 

وهذا التوجيه الحكيم بيان لقوله تعالى: 

{ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا }

(سورة البقرة: 286)

وقوله جل شأنه: 

{ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا }

(سورة الطلاق: 7)

وقوله عز من قائل: 

{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا }

(سورة النساء: 40)

قوله سبحانه: 

{ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ }

(سور ة الزلزلة: 7)

إلى آخر ما في كتاب الله تعالى مما هو في معناه.

واحتقار الشيء معناه: الاستخفاف به أو عدم النظر إليه لقلته أو تفاهته، ولكن المراد به هنا معنى آخر يليق بهذا التوجيه الحكيم، هو ألا يقلل المسلم من شأن صدقته عند الله – عز وجل – فإن الله يضاعفها أضعافاً كثيرة وينميها لصاحبها حتى لتكون التمرة كجبل أحد، كما جاء في الحديث.

فرب لقمة يضعها المرء في بطن جائع تكون عند الله أكثر أجراً ممن بنى مسجداً، فالتفاوت في الأجور ليس بقلة الشيء وكثرته، ولكنه يتفاوت بقدر تفاوت العاملين في الإخلاص لله رب العالمين.

يقول الله عز وجل: 

{ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

(سورة البقرة: 245)

ويقول جل شأنه: 

{ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

(سورة البقرة: 265)

أي فإن لم يصبها مطر غزير أصابها الطل، وهو المطر الخفيف الكافي لإنبات الزرع.

وهذا المثل الذي ضربه الله لصدقة المتصدق يستحق منا وقفة تأمل وتدبر.

فالمسلم الذي ينفق ماله كله أو بعضه أو شيئاً منه مهما كان قليلاً، والحال أنه يبتغي بذلك وجه الله تعالى، ونفسه ثابتة على التوكل وحسن الثقة بالله تعالى، لا يخشى الفقر ولا يأمل الغنى – هذا المخلص الذي خلص الله قلبه من شوائب الشرك ونزعات الهوى، وأخلصه لنفسه، ينمي الله له صدقاته حتى تكون الحبة جنة، أي بستاناً على ربوة خصبة مرتفعة جيدة التربة، تتعرض للشمس والهواء وينزل عليها الغيث فتحيا – بإذن ربها – حياة طيبة وتنبت نباتاً حسناً، وتؤتي أكلها ضعفين، أي تؤتي أكلها على غير العادة المألوفة في مثلها من الأراضي الخصبة.

 وفي هذه الآية من اللطائف ما قد بينا بعضه في كتاب الأمثال القرآنية فارجع إليه إن شئت.

والمعروف ضد المنكر، وهو: كل ما اعتاده الناس مما لا يخالف الشرع، ثم أطلق على كل خير يبذل في سبيل الله.

يقال: صنع فلان في فلان معروفاً، أي أسدى إليه شيئاً من المال، أو أعانه على قضاء حاجة من حوائجه، أو كلمة كلمة طيبة أسعدته.

ولهذا أمر الله أولياء السفهاء في سورة النساء بأن يقولوا لهم عند الحجر عليهم قولاً معروفاً يرضيهم ويدخل السرور عليهم، فقال جل شأنه: 

{ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا }

(سورة  النساء: 5)

وبهذا أيضاً أمر الورثة إذا قسموا المال أن يقولوا لذوي القربى واليتامى والمساكين بعد أن يعطوهم شيئاً مما أعطاهم الله كلاماً مألوفاً تستأنس به النفوس وتستريح له القلوب 

{ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا}

(سورة النساء: 8)

إن الكلمة الطيبة حسنة من أعظم الحسنات التي ينبغي أن يحرص عليها التاجر مع الله تعالى، فالكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة.

قال تعالى: 

{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا }

(سورة إبراهيم: 24 – 25)

وقد قال بعض المفسرين: الكلمة الطيبة في الآية هي كلمة التوحيد، ولكن النص لا يأبى العموم، فكلمة التوحيد هي أعلى الكلام الطيب، وكل ما لا يتعارض معها من الكلام فهو طيب، يقبله الله ويثيب عليه.

روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: 

"إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ"

والمسلم إن لم يجد شيئاً يتصدق به ولا صنيعة من صنائع المعروف يقوم بها لصاحبه، يكفيه أن يبش في وجهه، فإن البشاشة نوع من الكرم، وتعبير عن المحبة والمودة، وفيها مواساة واسترضاء، ولها في النفوس سحر خاص.

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: 

"وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَلْقَ أَخَاهُ بِوَجْهٍ طَلِيقٍ"، وفي رواية: "بوجه طلق"

والمعنى واحد.

وطلاقة الوجه إشراقة بالبشر والاستحسان، والعطف والحنان، والسماحة التي تعرف ولا توصف، به يلتقي المحبون فينسون همومهم وأحزانهم، وبه يتعاطفون فيما بينهم.

وقد جاء في الحديث: 

"إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن فليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق"

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبش في وجه من يبغضه تكرماً وتحلماً.

روى البخاري في صحيحه عن عائشة – رضي الله عنها – أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال: 

"بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ وَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ"، فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ، فلما انطلق الرجل، قالت له عائشة: يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا عَائِشَةُ مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشًا إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ".

ويختم الحديث بوصية يظهر فيها مدى ما ينبغي أن يكون بين الناس من تراحم وتعاون وتكافل، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: 

"وَإِذا اشْتَرَيْتَ لَحْمًا أَوْ طَبَخْتَ قِدْرًا فَأَكْثِرْ مَرَقَتَهُ وَاغْرِفْ لِجَارِكَ مِنْهُ"

ومعنى قوله: 

"طَبَخْتَ قِدْرًا"

أي طبخت طبخة في قدر وبها لحم فأكثروا المرق لتغرف منها لجارك – فربما يكون في حاجة إليها – على سبيل الصدقة أو على سبيل الهدية.

وقد جاء في الحديث الصحيح: 

"تَهَادَوْا تَحَابُّوا"

وقد رودت أحاديث كثيرة في الحث على إكرام الجار – ذكرنا بعضها فيما سبق.


والله هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.