سَتَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةً

سَتَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةً

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

"إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا" قَالوا: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ "أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ، وَسَلُوا اللَّهَ حقكم"

الأثرة ضد الإيثار، فهي في الثرى والإيثار في الثريا. 

الأثرة: انحطاط في الخلق، وسوء في الطبع، وخراب في الذمم، وكفر بالنعمة، وخروج عن الفطرة.

وهي الشح المطاع والهوى المتبع، إنها الشر كله وإن اختلط بشيء من الخير للنفس التي جبلت عليها. 

ويقال لها: حب الذات، وتسمى في لغتنا الحديثة بالأنانية، وهو لفظ منسوب إلى الضمير "أنا"، بمعنى أن الشحيح يقول: أنا، أنا، أي نفسي نفسي، لا أحب سوى نفسي، ولا أخدم أحداً سواي. 

وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ستكون بعده أثرة، أي لابد أن تقع؛ لأن السين للتحقيق كما يقول علماء اللغة. 

وأما في عصره صلى الله عليه وسلم: فقد كان الإيثار هو المهيمن على أخلاق أصحابه الكرام البررة مهاجرين وأنصار.
 
قال تعالى: 

{ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ  وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } 

(سورة الحشر: 8-9)

فقد وصف الله الأنصار بالإيثار مع شدة الحاجة إلى ما يؤثرون به إخوانهم المهاجرين، ولكن لا تظن أنهم خصوا بذلك دونهم، فهم إلى الإسلام أسبق بالإيثار أحق. 

فوصف الأنصار به لا ينافي أن يكون لغيرهم أيضا، ولا سيما الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق وآثروا الرسول صلى الله عليه وسلم على أنفسهم بكل ما ملكت أيديهم.

وقد وصفهم الله بالصدق فقال: 

{ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } 

أي في أقوالهم وأفعالهم وجيمع أحوالهم، فهم قد صححوا النية وأصلحوا الطوية، وأتوا بأعمال البر كلها.

ولقد بين الله هذه الأعمال في قوله – جل وعلا - : 

{ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } ثم ختم الآية بقوله تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } 

(سورة البقرة 177)

والأثرة: أول شيء من الفتن قد ظهر بعد استشهاد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - . 

فقد أشرأب إلى الخلافة بعده أقوام يبتغون فيها العزة وهم يعلمون أنها عبء ثقيل، ومسئولية خطيرة، لكنها الدنيا قد انفتحت عليهم، وهي أخشى ما كان يخشاه الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم.

أخرج البخاري في صحيحه عن حذيفة بن اليمان – رضي الله عنهما – من حديث طويل في الفتن قال في آخره لعمر: 

"إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا، قَالَ عمر: أَيُكْسَرُ الباب أو يفتح؟ قَالَ: بَلْ يُكْسَرُ، قَالَ عُمر: إذا لَا يُغْلَقَ أبداً، قلت: أجل"

وقوله: 

"وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا" 

أي لا تقرونهم عليها؛ لعدم موافقتها لأمور الدين، أو عدم نفعها للناس في الدنيا، أو تنكرونها لعدم موافقتها للعرف القائم بين الناس – كل هذا مراد بقوله: "تُنْكِرُونَهَا".

وهذه الأمور التي تكون موضعاً للإنكار كثيرة لا تحصى. 

منها: التشوق للإمارة، واشتغال الولاة بالتجارة والصناعة وغيرها من الحرف، وإهمال ما ولوا فيه، والتقصير في حق الرعية، وقبول الرشوة، وأكل أموال الناس بالباطل، والاستبداد بأموال المسلمين، والغلول في الغنائم، وميل الحكام والأمراء إلى الغناء والمعازف وسائر الملاهي المذمومة شرعاً وعقلاً، ووضع الرجل في مكان لا يناسبه ولا يجيد العمل فيه، ومدح الناس بما ليس فيهم، وإكرام الرجل مخافة شره، ولبس الحرير وشرب الخمور، ولعن بعضهم بعضاً على المنابر في المساجد، وقصر الأموال على طبقة الحكام والأمراء والوزراء، ومن على شاكلتهم من السادة والأشراف، والأخذ بالشبهات والاختلاف في أمور الدين الظاهرة، والتقليد الأعمى لأصحاب المذاهب الهدامة، إلى غير ذلك مما تراه في عصرنا ورآه من قبلنا من بعد استشهاد عمر بن الخطاب إلى يومنا هذا.
 ومن يعيش بعدنا فسيرى اختلافاً كثيراً وفتناً يكون القائم فيها خير من الماشي، والقاعد فيها خير من القائم، والنائم فيها خير من القاعد.
وكل ما نراه اليوم هو من علامات الساعة حتى يخيل إلينا أنه لم يبق منها إلا العلامات الكبرى كطلوع الشمس من مغربها، وظهور المسيح الدجال، ونزول عيسى ابن مريم، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، وغيرها مما تؤذن بقيام الساعة.

وعندما سمع أصحابه صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر الصادق الذي تلقاه من ربه بالوحي قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟، أي بأي شيء تأمرنا في مواجهة هذه الأثرة المستشرية، وهو سؤال يفرض نفسه عليهم؛ لشدة حرصهم على النجاة من هذه البلية التي لم يعهدوها في أخلاقهم، وهم الذين آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم أخوة لم يعرف التاريخ لها مثيلاً من قبل ولا من بعد.
 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 

"أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ، وَسَلُوا اللَّهَ حقكم"

وحقهم عليهم الطاعة في غير معصية الله تعالى، وعدم مناوشتهم أو تأليب الناس عليهم؛ فإن ذلك يجلب فتنة أكبر من هذه الأثرة، وتتيح لأصحاب الأهواء الجامحة والتيارات المنحرفة أن تنال من المسلمين نيلاً، ربما لا تقوم لهم بعده قائمة. وعليهم أن يصبروا حتى يأتي الله بأمره، ويسألوا الله من فضله أن يأخذ لهم بحقهم منهم يوم القيامة.
 ودعوة المظلوم تفتح لها أبواب السماء، وليس بينها وبين الله حجاب.
 وقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: 

"كَانَتْ بَنو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الأَنْبِيَاء كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ آخر وَإنَّهُ لَا نَبِيٌّ بَعْدِي وسيكُونُ بعد خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُون قَالُوا: فَما تأمرنا؟ قَالَ أَوْفُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ ثُم أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ ، واسْأَلُوا اللَّهُ الذي لَكُم، فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ "

 وقد روى البخاري ومسلم عن أبي يعلى معقل بن يسار – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: 

"مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ"

وقد روى مسلم في صحيحه عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول – في بيتي هذا –

"اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرَ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ"

وقد وردت أحاديث كثيرة في مواجهة الحكام بالصبر والجلد إذا بغوا وظلموا، ما داموا يقيمون الصلاة، ويحكمون بكتاب الله تعالى في الحدود وسائر الأمور العامة، بقدر طاقتهم البشرية مع وجود الأثرة التي تدفعهم إلى ظلم الرعية في كثير من الحقوق الدنيوية.
 

نسأل الله السلامة والعافية