اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ
عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ – رضي الله عنه – قَالَ:
قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ" قَالَ: فَرَدَّدْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا بَلَغْتُ اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ قُلْتُ: وَرَسُولِكَ، قَالَ: "لَا وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ".
كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يوصي بعض أصحابه بوصايا يراها نافعة لهم في دينهم ودنياهم، ويكون الخطاب لهم على وجه الخصوص ولغيرهم على وجه العموم إلا إذا دل دليل على تخصيصهم بذلك دون غيرهم.
فقد أوصى البراء بن عازب بهذه الوصية – في هذا الحديث – ليعمل بها بعد أن يحفظها ويعيها جيداً، ثم يبلغها غيره ليعمل بها، فنقلها الرواة عنه بدقة وأمانة، فكانت نعم الوصية؛ لأنها قد جمعت فوائد جمة، واشتملت لطائف مهمة، واعتبرها الذاكرون خير وصية أوصى بها النبي – صلى الله عليه وسلم – يستحب العمل بها عندما يأوى أحدهم إلى فراشه، ويضطجع على جنبه، ويُسلمُ الروح لخالقها، فإن شاء ردها عليه، وإن شاء حبسها عنده.
فهي وصية يطمئن بها قلب المؤمن، وتهدأ بها نفسه عندما يأوى إلى فراشه ليستريح من معاناة العمل، أو من وعثاء السفر.
والمرء دائماً في حاجة ماسة إلى ما يذكره بالله – عز وجل – ويدفع عنه غائلة الغفلة، ولا سيما عند النوم، فإنه لا يلبث أن يغمض عينيه ويقهره النوم فيفتر لسانه عن الذكر، ويغيب عقله عن الوعي، ويغفل قلبه عما يدور حوله.
فإذا كان آخر عهده باليقظة هذه الكلمات التي أوصى بها النبي – صلى الله عليه وسلم – البراء بن عازب ظل عقله الباطن مشغولاً بهذا الذكر حتى يستيقظ، فإذا استيقظ وجد نفسه يذكر الله تلقائياً كأنه لم يكن نائماً من قبل.
وبهذا الذكر الذي أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يظل النائم – أيضاً – في مأمن من هواجس النفس، ووساوس الشيطان، فلا يرى من الأحلام ما يزعجه، ولا يعتريه الأرق، ولا يصيبه القلق، ولا يعكر صفو قلبه شيء من الهم والحزن وواردات الخواطر، ولا سيما لو نام على طهارة.
وأول ما أوصى به النبي – صلى الله عليه وسلم – البراء بن عازب هو الوضوء، فقال:
"إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ"
أي: إذا أردت الإتيان إلى مضجعك، وليس المعنى: إذا انتهيت إليه فتوضأ.
وهذا كقوله تعالى:
{ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ }
(سورة المائدة: 6)
أي: إذا أردتم القيام.
وقوله – جل شأنه-:
{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ }
(سورة النحل: 98)
أي: إذا أردت أن تقرأ القرآن.
والمضجع – بفتح الميم – هو: محل النوم.
ومعنى: "فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ": توضأ كما تتوضأ للصلاة.
وهذا التشبيه يدفع توهم من يحمل الوضوء على معناه اللغوي، كغسل الوجه واليدين من غير نية تحصيل الطهارة من الحدث.
وهذا الوضوء مستحب عند النوم لمن لم يكن على طهارة، فإن كان على وضوء لا يستحب في حقه تجديد الوضوء، وإن كان الوضوء على الوضوء نور على نور.
وهذا الوضوء يسمى وضوء النوم فلا ينتقض به، ولكن إذا نام ثم استيقظ وجب عليه إعادته من أجل الصلاة.
فمن نام على طهارة لا يضره إن أحدث في نومه؛ لأن قلبه قد انعقد على الطهارة، فحصل له المقصود منها.
وأوصاه – صلى الله عليه وسلم – أن يضطجع على شقه الأيمن؛ لأنه – صلى الله عليه وسلم – كان يحب التيامن في كل شيء.
ولا بأس أن يتحول إلى جنبه الأيسر بعد أن يذكر الله – عز وجل – بهذا الذكر الذي أوصاه به – صلى الله عليه وسلم – وهو ذكر واضح المعنى لمن أوتى أدنى حظ من العلم، ولكن لا بأس أن نزيد المعنى بياناً، فنقول:
معنى "أَسْلَمْتُ نَفسي إِلَيْكَ": سلمتها لك، وفوضت أمرها إليك، إذ لا وجود لها إلا بك، ولا اعتماد لها على سواك، ولا ثقة لها إلا بفضلك، ولا مطمع لها إلا في رحمتك.
والإسلام والاستسلام لله معناه: الإخلاص وحسن التوكل والانقياد.
قال: العيني: (وفي رواية: "أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ"، والوجه والنفس ها هنا بمعنى الذات.
قال ابن الجوزي: يحتمل أن يراد به الوجه حقيقة، ويحتمل أن يراد به القصد، فكأنه يقول: قصدتك في طلب سلامتى.
وقد جاء في رواية أخرى: " أَسْلَمْتُ نَفْسِي وَوَجهتُ وَجْهِي إِلَيْكَ"، فجمع بينهما فدل على تغايرهما). ا.هـ.
أقول: المراد بالوجه في هذا الرواية القلب، فهو أوجه ما في الإنسان، وقد ذكر ذلك الإمام الغزالي في كتاب الإحياء، وعند كتاب الإحياء، عند ذكر التوجه الذي تفتتح به الصلاة بعد التكبير.
ومعنى: "فَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ": رددت أمري كله إليك، وبرثت من الحول والقوة إلا بك، فاكفني همه وأكفل لي صلاحه.
وقوله: "أَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ" معناه: اعتمدت عليك في شأني كله، كما يعتمد الإنسان بظهره على ما يستند إليه، فهو كناية عن الركون إلى ساحة رحمته، والقرار إليه بكليته، إذ لا منجاة منه إلا إليه ولا خلاص من عذابه إلا بعفوه.
والملجأ في اللغة: ما يؤوي الإنسان من المخاطر، ويستره عمن يريد به السوء.
والمنجاة هي: الوقاية من الهلكة، وقد ذكرت مع الملجأ لتلازمهما في المعنى، فمن لجأ إلى الله نجا؛ فهو الملجأ والملاذ، وفي الفرار إليه النجاة كل النجاة.
وهذا كقوله تعالى حكاية عن الثلاثة الذين خُلفوا عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في غزوة تبوك من غير عذر:
{ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ }
(سورة التوبة: 118)
ومعنى قوله – صلى الله عليه وسلم - : "آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ": جددت إيماني، ومضيت عليه، وازدت وتزودت منه لآخرتي.
"وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ"، أي: أيقنت يقيناً لا يخالجه شك بأنه نبيك الذي نبأنه وأرسلته، فرضيت بك رباً، وبكتابك إماماً، وبمحمد نبياً ورسولاً.
وهذا الإقرار عند النوم – وهو الموتة الصغرى – يعتبر شهادة من العبد لنفسه، بأنه لا ينام إلا مؤمناً ولا يموت إلا مؤمناً، فإن رده الله إلى الحياة لاستيفاء أجله رده مؤمناً لم يفتقد شيئاً من إيمانه، وإن أماته بعثه مؤمناً، فإن الإنسان يبعث على ما فات عليه.
وبعد أن أوصى النبي – صلى الله عليه وسلم – البراء بن عازب – رضي الله عنه – بشره بخير ما يبشر به المؤمنون فقال: "فَإِنْ مُتَّ مت عَلَى الْفِطْرَةِ"، أي على الإسلام وعلى السنة.
قال: "وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ"، أي لا تحدث أحداً بعد ذلك بشيء، بل تستسلم للنوم مباشرة، ولا تحدث نفسك بأي أمر من أمور الدنيا؛ حتى لا يعتريك الأرق والقلق، وتسيطر عليك الخواطر فتثير أعصابك وتحرمك راحة النوم، وتجلب عليك الهواجس النفسية والوساوس الشيطانية، فلا يكون لهذا الذكر كبير فائدة. فإن تحدثت مع غيرك أو حدثت نفسك بشيء فردد هذا الدعاء حتى تنام عليه.
قال البراء بن عازب – رضي الله عنه - :
"فَرَدَّدْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا بَلَغْتُ اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ قُلْتُ: وَرَسُولِكَ، قَالَ: "لَا وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ".
أتدري لماذا قال النبي – صلى الله عليه وسلم - : "لَا وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ"، أليس المعنى واحداً؟.
ذكر شراح الحديث في ذلك أقوالاً منها:
أنه أراد أن يجمع بين صفتيه في هذا الدعاء، وهي النبوة والرسالة.
ومنها أن ألفاظ الأذكار توقيفية في تعيين اللفظ وتقدير الثواب.
أو لعله أوحى إليه بهذا اللفظ فرأى أن يقف عنده.
أو أمره بذلك دفعاً للتكرار، فإن لفظ أرسلت يفيد أن المرسل رسول، فقال: وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ ليكون أبلغ.
وقيل غير ذلك.
والذي أراه – والله أعلم – أن الدعاء كتركيبة الدواء لا نقص فيه ولا زيادة، كالتسبيح والتحميد والتكبير عقب الصلوات الخمس، فإنها تسع وتسعون تختم بــ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
فينبغي على المسلم أن يدعو الله – عز وجل – بالدعاء الوارد عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دون أن يزيد فيه أو ينقص منه، فربما تكون الزيادة فيه عائقة عن قبوله، والنقص فيه مانع من نفعه على الوجه الأكمل.
لكن من لم يكن من أهل الحفظ والدراية، فليدع الله بما شاء من الدعاء، ويتحرى المعنى بقدر الطاقة.
والله هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل