كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ

كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

"مَنْ يَأْخُذُ عَنِّي هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ فَيَعْمَلُ بِهِنَّ أَوْ يُعَلِّمُ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ؟. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّ خَمْسًا، وَقَالَ: اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا، وَلَا تُكْثِرْ الضَّحِكَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ".

كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا أراد أن يوصي أصحابه بوصية جامعة لخصال الخير استدعى أسماعهم بمثل قوله: "مَنْ يَأْخُذُ عَنِّي هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ"، فيقول رجل منهم كأبي هريرة – رضي الله عنه وعنهم جميعاً -: "أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ".

أو يقول: "يا فلان ألا أعلمك كلمات، أو ألا أدلك على أبواب الخير، أو على كنز من كنوز الجنة، ونحو ذلك من وسائل الترغيب والترهيب، وجلب الانتباه. 

وهو أسلوب تعليمي شيق، ينبغي على المعلمين أن يسلكوه في تدريس العلوم الدينية وغيرها، شحذاً للعزائم، واستنهاضاً للهم في طلب ما يشوقهم إليه، وهو أسلوب مقتبس من القرآن الكريم. 

قال تعالى: 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }

(سورة الصف: 10). 

فهذا الاستفهام للتشويق إلى ما سيلقي عليهم من أنواع البر التي يتجرون فيها مع الله تبارك وتعالى، لكي ينالوا مغفرته ورضوانه ونصره. 

وقال جل شأنه: 

{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } إلى قوله تعالى: { فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى }

(سورة النازعات: 15-18). 

وقال تعالى: 

{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ }

(سورة الذاريات: 24).

{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ }

(سورة الغاشية: 1).

{هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ }

(سورة الفجر: 5).

والمراد بالكلمات: الوصايا الموجزة البليغة ذات الشأن والخطر، والتي لها في النفوس المؤمنة أبلغ الأثر. 

وقد أهدى إليهم الرسول – صلى الله عليه وسلم – هؤلاء الكلمات الخمسة فسعدوا بها علماً وعملاً، ونقلوها إلينا بأمانة كما سمعوها؛ لنعمل بهن، فتسعد كما سعدوا. 

وقد كان الرسول – صلى الله عليه وسلم – يذكر العدد ليحفظ، وهذه طريقة مثلي من طرق التدريس يلجأ إليها المعلمون في ضبط ما ينبغي الحرص عليه، حتى إذا نسى أحدهم واحدة سأل عنها من سمعها.

الكلمة الأولى: "اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ" أي تكن أطوع الناس لله وأسلمهم قلباً، وأخلصهم ديناً، وأمثلهم طريقة؛ فالعبادة: هي التذلل والخضوع، من قولهم: طريق معبد: أي مذلل سهل المسالك، مستقيم لا عوج فيه ولا ارتفاع ولا انخفاض.

والعابد: هو من انتهى به الأمر في العبادة إلى حد لا يؤثر فيه على حب الله ورضاه شيئاً، ولا يثنيه عن طاعته هوى، بل يكون هواه فيما جاء به رسوله – عليه الصلاة والسلام-.
وأعبد الناس من جعل لنفسه وقاية تامة من جميع ما حرم الله عليه، فلا يأتي ذنباً كبيراً ولا صغيراً إلا بغير قصد، وإن وقع فيه لم يصر عليه.

والمحارم: ما حرم الله على عباده، جمع محرم – بسكون الحاء وفتح الراء – ومحارم الليل: مخاوفه التي يحرم على الجبان أن يسلكها – كما قال ابن منظور في لسان العرب - .
والتقي يخشى من اقتحام محارم الله تعالى، بل يخاف من الاقتراب منها خشية الوقوع فيها.

وما يقاربها يسمى شبهات، وهي ثلاثة أنواع:

شبهة إلى الحرمة أقرب: وهي ما كان دليل الحرمة فيها أرجح من دليل الحل.وشبهة هي إلى الحل أقرب: وهي ما كان دليل الحل فيها أرجح من دليل الحرمة.

وشبهة: بين الحل والتحريم يتنازعها دليلان متساويان لا يدري المجتهد على وجه التحديد أي الدليلين أقوى من الآخر.

والتقى الورع: هو الذي يجتنب الشبهات خوفاً من الوقوع في المحرمات استبراءً لدينه وعرضه، بل يترك الجائزات إن خاف أن تؤدي به إلى الوقوع في المحرمات.

الكلمة الثانية قوله – صلى الله عليه وسلم -: "وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ". 

وهي وصية تثلج الصدور حقاً، وتهدي القلوب إلى ما تطمئن به وتستريح له وتسكن إليه. 

قال تعالى: 

{ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

(سورة التغابن: 11).

والمصيبة ما يصيب الإنسان من خير وشر. 

والإيمان بالله تقتضي الرضا بقضائه وقدره: خيره وشره، وحلوه ومره. 

والقدر – في الحقيقة – خير كله وإن بدا أن بعضه شر وبعضه خير، فما كان شراً في الظاهر فهو خير في الباطن، لأن الله حكم عدل، والعدل لا يأتي إلا بخير، وهو بعباده رءوف رحيم.
ولا يسع المسلم إلا الرضا بما قسم الله له، فعندئذ يكون أغنى الناس، لا يسأل أحداً سواه.
لكن ما معنى الرضا؟

أقول: إن الرضا هو العلم بأن ما قدره الله لابد أن يقع كما قدره، وفي الوقت الذي أراده، والصبر على ما أصابه من بلاء وضر، ومواجهة المكاره بصدر رحب وقلب مطمئن، والشكر على نعمائه، والثناء عليه بما هو أهله في السراء والضراء، والتسليم له في جميع الأمور.

ولهذا كان الرضا من أعلى المقامات، ومن هنا كان كل الغنى في الرضا. 

وقد تكلم العلماء في هذ المقام، وتوسعوا في بيان مراتبه ودرجاته، وعبر العارفون عنه بحسب مقاماتهم فيه. 

وذلك لأن حقيقته غامضة – كما يقول الغزالي – ولا ينكشف الأمر فيه إلا لمن يفهمه عن الله تعالى. 

قال بعض العارفين: هو باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين.ومعنى كونه باب الله الأعظم: أنه طريق الوصول إلى مرضاته، فمن رضى فله الرضا منه حتى يرضى.

ومعنى كونه جنة الدنيا: أنه النعيم الذي لا يعرفه إلا الراضون المكثرون من ذكره وشكره. 

وقد ذكرت في شرح بعض الأحاديث أن رجلاً قال: عجبت لمن خرج من الدنيا ولم يستمتع بنعيمها.قالوا: أو في الدنيا نعيم يا رجل!قال: نعم فيها نعيم يعد نعيم الجنة.قالوا: ما هو؟، قال: ذكرالله. 

وقد جاء في الحديث: 

"أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ".  

ولا يتأتى الرضا لعبد إلا إذا غمر ذكر الله قلبه واستغرق عقله في حبه. 

وأما كون الرضا مستراح العابدين، فإنه الحياة الطيبة التي وعد الله بها من آمن وعمل صالحاً في قوله – جل شأنه –: 

{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }

(سورة النحل: 97)

وهو المتاع الحسن الذي وعد الله به في قوله – جل شأنه: 

{ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } 

(سورة هود: 2-3).

وهو ثواب الدنيا الوارد في قوله تعالى: 

{ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }

(سورة آل عمران: 148). 

قال عمر بن عبد العزيز – رضي الله عنه - : ما بقي لي سرور إلا في مواقع القدر. 

وقيل له: ما تشتهي؟ قال: ما يقضي الله عز وجل.ولنا عودة إلى هذا المقام الأعلى في حديث آخر إن شاء الله تعالى. 

الكلمة الثالثة: قوله – صلى الله عليه وسلم – 

"وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا". 

وقد مضى الكلام على إكرام الجار والإحسان إليه في حديث: 

"مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارُهُ".

ولكن نزيدك هنا فيه علماً فنقول:  

الإحسان على أربع مراتب أعلاها وأسماها 

أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِن لَم تِكُن تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ، 

كما قال الرسول – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم. 

والمرتبة التي تليها: هي الإتيان بما يستحسنه أهل الإحسان من الأعمال الصالحة.

والمرتبة الثالثة: هي إتيان ما لا يستقبح فعله عند عامة الناس.والمرتبة الرابعة: هي ترك الإساءة فقط.والإحسان إلى الجار أقل درجاته أن يأمن الجار أذى جاره.وهذا ما يتمناه كل جار من جاره في هذا الزمان.

فلو ترك الجار أذى جاره، فلم يحقد عليه، ولم يحسده، ولم يشمت فيه، ولم يتتبع عوراته، ولم يقل فيه ما يكره، فهو محسن، بل ربما يعتبره الناس أحياناً من خيار المحسنين. 

ولما كان الإحسان إلى الجار عظيماً عند الله – كما سبق بيانه في الحديث المتقدم – كان برهاناً من براهين صحة الإيمان، إذ هو ثمرة من أعظم ثمراته.
ومعنى قوله – صلى الله عليه وسلم – "تَكُنْ مُؤْمِنًا" أي مؤمناً حقاً إيماناً كاملاً.

الكلمة الرابعة: قوله – صلى الله عليه وسلم – 

"وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا". 

أي تكن مخلصاً صادقاً مع الله – عز وجل – ومع نفسك ومع الناس.

فالإسلام له عدة معان منها: الإخلاص، والانقياد، والتسليم، والرضا.ولا يقولن قائل: كيف جعل الرسول – صلى الله عليه وسلم – الإحسان إلى الجار أمارة من إمارات الإيمان الكامل، وجعل حب الإنسان لأخيه ما يحبه لنفسه أمارة من أمارات الإسلام، مع أن الثاني أفضل من الأول، والإيمان أخص من الإسلام؛ فإن معنى الإسلام في الحديث ما ذكرنها وليس هو التصديق الجازم بكل ما جاء به النبي – صلى الله عليه وسلم.
وذلك لأن الخطاب في الحديث لخيار المؤمنين، فلابد أن يحمل الإسلام فيه على معنى أعمق من المعنى المشهور عند علماء التوحيد، وهو المعنى الذي ذكرناه. 

وعلى أساسه يفهم ما جاء في قصة إبراهيم – عليه السلام – من قوله: 

{ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ }

(سورة البقرة: 128). 

ومن قوله تعالى: 

{ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ }

(سورة البقرة: 131) 

أي أخلصت له الدين وانقطعت تاماً عمن سواه.

الكلمة الخامسة: قوله – صلى الله عليه وسلم: 

"وَلَا تُكْثِرْ الضَّحِكَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ".  

وهذا صادق بالتجربة، فلا يضحك كثيراً إلا من به هوس فكري، وفساد خُلُقي، وقلب مريض يأن ويتوجع، وهو يريد – بلا جدوى – أن يطرد من قلبه ألماً مفجعاً، وهماً موجعاً، وحزناً داكناً،  وسفهاً متحكماً، فيكون مثله كمثل العصفور المذبوح الذي يرقص من شدة الألم.

ولو يعلم هؤلاء المغرورون بدنياهم، والمعجبون بأنفسهم ما وراءهم من عذاب وبيل وشر مستطير ما ضحكوا إلا قليلاً.

 والرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يقل الضحك يميت القلب. ولكن قال: 

"كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ".  

فلابد للإنسان من أن يروح عن نفسه ولكن من غير إسراف ولا تكلف، وفي مواطن دون مواطن، وفي وقت دون وقت، وفي حال دون حال. 

والعاقل يعرف متى يضحك، ومتى يكف عن الضحك. 


والله هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.