مراعاة الطبيعة البشرية تقدير الطاقات والمواهب

مراعاة الطبيعة البشرية تقدير الطاقات والمواهب

تقديم النصح في صورة طيبة:

نادرًا ما تجد إنسانًا يقبل أن تسدِّد إليه نصحًا، أو تصحح له خطأ، وقد كان رسول الإنسانية العظيم يعلَم أن أفضل الطرق لقبول النَّصيحة ووضعِها موضع التنفيذِ - هي أن تقدَّم في صورة طيبة وبكلمات تقبَلها النفس؛ مع أن خير البشر لو أراد لقال نصحه على أيِّ وجه؛ فهو يعلم أن أصحابه يقدِّمونه على أنفسهم، وأن ما يدلُّهم عليه أحب إليهم مما يحبون، لكنه يقدم لنا الأسوة والقدوة؛ فها هو - صلَّى الله عليه وسلَّم - يدعو عبدالله بن عمر لقيام الليل، فلا يقول كما يقول بعض الشيوخ: إن التاركين لصلاة الليل خاسرون وفاسقون - فربما كان المعنى صحيحًا، ولكنَّ أسلوب الكلام لا يدعو أحدًا إلى قبول النصيحة والعمل بها - بل يقول في حب: ((نعم العبدُ عبدُالله بن عمر لو كان يقوم من الليل))، قال سالم بن عبدالله بن عمر: فكان عبدالله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً.

تقدير الطاقات والمواهب:

من خلال تشجيع المحسِن والثناء عليه؛ ليزداد نشاطًا وإقبالاً على العلم والعمل، مثلما فعل مع أبي موسى الأشعري حين أثنى على قراءته وحُسن صوته بالقرآن الكريم؛ فعن أبي موسى - رضي الله عنه - أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال له: 

((لو رأيتَني وأنا أستمع لقراءتك البارحة، لقد أوتيتَ مزمارًا من مزامير آل دواد).

وقد قدَّر رسول الكريم شاعريةَ حسانَ بن ثابت فلم يأخذ عليه أو يدْعُهُ إلى ترك قول الشعر والالتفات إلى الجهاد بالنفس أو تعلُّم القرآن، بل علَّمنا أن الإسلام يحتاج إلى كلِّ الطاقات، ويقدِّر جميع المواهب، فجعل حسانَ فارسًا من فرسان دعوة الإسلام يذود عنها بشعره ولسانه، ويهجو شعراء المشركين، فيمدحه رسول الله قائلاً: 

((اهجُهم ورُوحُ القُدُس معك)).

البحث عن منافذ الخير:

لأنَّ رسولنا الحبيب كان يعرف معادن الناس؛ فقد كان أحرص الناس على دعوة من يتوسَّم فيهم الصلاح والخير، حتى وإن بدَوْا أعداء كارهين لدعوة الإسلام؛ لذا فقد قال النبي الملهَم من السماء: 

((الناس معادنُ، خيارُهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فَقُهوا)؛ ولذا نراه - صلَّى الله عليه وسلَّم - يأمُل في إسلام بعض الفضلاء الذين حاربوا الإسلام في بدايته، وقادوا ضدَّه المعارك، ومن هؤلاء كان القائد المميَّز الذي صار يضرب باسم الله بعد ذلك خالد بن الوليد!

فماذا قال عنه رسول الله؛ حتى يفتح قلبه وعقله للإسلام بعدما أدرك أن فيه منافذَ خير تؤهِّله أن يكون قائدًا من جنود الإسلام العظام؟ مقالة وصلت إلى مسامع خالد، فأحدثت أثرًا في قلبه الذي كتب الله له الهداية: ((أوَمثلُ خالدٍ يتوه عن الإسلام؟!)).

ولنستمع الآن إلى خالد نفسه يقص علينا خبر إسلامه، وكيف وقع في قلبه كلامُ رسول الله عنه!

"كان أخي الوليد بن الوليد قد دخل مع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في عمرة القَضِيَّةِ، فطلبني فلم يجدني، فكتب إلي كتابًا، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإني لم أرَ أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام، وعَقْلُك عَقْلُك، ومِثل الإسلام جهله أحد؟ وقد سألني رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عنك فقال: أين خالد؟ فقلت: يأتي الله به؟ فقال: ما مثله جهل الإسلام، ولو كان جعل نكايتَه وجِدَّه مع المسلمين على المشركين، لكان خيرًا له، ولقدَّمناه على غيره، فاستدرِك يا أخي ما فاتك، فقد فاتتك مواطن صالحة.

قال: فلما جاءني كتابه، نشِطت للخروج، وزادني رغبةً في الإسلام، وسرَّني مقالة رسول الله، قال خالد: وأرى في النوم كأني في بلاد ضيقة جديبة، فخرجت إلى بلد أخضر واسع، فقلت: إن هذه لرؤيا، فلمَّا قدمت المدينة قلت: لأذكرنَّها لأبي بكر، قال: فذكرتها، فقال: هو مخرجك الذي هداك الله للإسلام، والضِّيق الذي كنت فيه من الشرك، فلما أجمعت للخروج إلى رسول الله، قلت: من أصاحب إلى رسول الله؟ فلقيتُ صفوانَ بن أمية فقلت: يا أبا وهب، أما ترى ما نحن فيه؟ إنما نحن أكلة رأس، وقد ظهر محمد على العرب والعجم، فلو قدِمنا على محمد فاتبعناه؛ فإنَّ شرفَ محمد على العرب، فأبى أشدَّ الإباء، وقال: لو لم يبق غيري من قريش ما اتبعتُه أبدًا، فافترقنا، وقلت: هذا رجل موتور يطلب وَتْرًا، قد قتل أبوه وأخوه ببَدْرٍ، فلقيتُ عكرمة بن أبي جهل فقلت له مثل الذي قلت لصفوان، فقال لي مثل ما قال صفوان، قلت: فاكتم عليَّ، قال: لا أذكره، فخرجت إلى منزلي، فأمرت براحلتي، فخرجت بها إلى أن لقيت عثمان بن طلحة، فقلت: إن هذا لي صديق، فلو ذكرتُ له ما أرجو، ثم ذكرتُ مَنْ قُتل مِن آبائه، فكرهت أذكِّره، ثم قلت: وما عليَّ وإني راحل من ساعتي، فذكرت له ما صار الأمر إليه، فقلت: إنما نحن بمنزلةِ ثعلب في جحر، لو صبَّ عليه ذنوب من ماء لخرج، قال: وقلت له نحوَ ما قلت لصاحبيه، فأسرع في الإجابة، وقال: لقد غدوت اليوم وأنا أريد أن أغدو، وهذه راحلتي بفخ مُناخة، قال: فاتَّعدْتُ أنا وهو بيأججَ، إن سبقني أقام، وإن سبقتُه أقمت عليه، قال: فأدلجنا سحَرًا فلم يطلع الفجر حتى التقينا بيأجج، فغدَوْنا حتى انتهينا إلى الهدَة، فنجد عمرو بن العاص بها، فقال: مرحبًا بالقوم، فقلنا: وبك، قال: مسيركم؟ قلنا: ما أخرجك؟ قال: فما الذي أخرجكم؟ قلنا: الدخولُ في الإسلام واتِّباع محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: وذلك الذي أقدمني.

قال: فاصطحبنا جميعًا حتى قدمنا المدينة فأنخنا بظاهر الحَرَّة رِكابنا، فأُخبر بنا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فسُرَّ بنا، فلبِست من صالح ثيابي، ثم عمدت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلقيني أخي فقال: أسرعْ؛ فإنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد أُخبر بك فسُرَّ بقدومك، وهو ينتظركم، فأسرعت المشي فطلعت عليه، فما زال يتبسم إلي حتى وقفت عليه، فسلمت عليه بالنبوة، فرد عليَّ السلام بوجه طلْقٍ، فقلت: إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقال: ((الحمد لله الذي هداك، قد كنتُ أرى لك عقلاً، رجوت إلا يسلِمك إلا إلى خير))، قلت: يا رسول الله، قد رأيتَ ما كنتُ أشهد من تلك المواطن عليك معاندًا عن الحق، فادع الله أن يغفرها لي، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: 

((الإسلام يجبُّ ما كان قبله))، قلت: يا رسول الله، على ذلك؟ فقال: ((اللهم اغفر لخالد كلَّ ما أوضع فيه من صدٍّ عن سبيلك))، قال خالد: وتقدَّم عمرو وعثمان فبايعا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكان قدومُنا في صفر سنة ثمان، فوالله ما كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من يومِ أسلمت يعدل بى أحدًا من أصحابه فيما حزبه".