إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ، ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ؛ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ شِفَاءً، وَفِي الْآخَرِ دَاءً"
هذا الحديث يُعدُّ – بحق – إعجازاً علمياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر بما أثبته العلم بالتجربة، وهو صلى الله عليه وسلم ليس من علماء الطب، ولا من علماء الحشرات ولا هو يعتمد في علمه على الملاحظة والتجربة وفرض الفروض ومناقشتها وفق المنهج الذي وضعه العلماء لسلامة المقدمات وصحة النتائج، وإنما هو رسول بعثه الله لهداية البشر، وزوده بالعلم والحكمة، ونبأه ببعض ما في هذه الكائنات من عجائب وغرائب، ودله على ما فيها من منافع ومضار.
وقد كنت في شبابي ألقى محاضرة في ناد من النوادي الكبرى فتطرق الحديث إلى هذا الحديث النبوي الشريف، فقام إلى رجل من كبار الطب، وتناول مني مكبر الصوت، وأخذ يكيل التهم لعلماء المسلمين، وينكر صحة هذا الحديث، وأخذ يُعرض بي، ويأمرني أن أترك هذا الحديث وأنبذه ورائي ولا أذكره أبداً في درس من الدروس، ولا في محاضرة من المحاضرات، وقال ما شاء الله أن يقول، ثم تناولت مكبر الصوت وناديت بأعلى صوتي أنَّ هذا الحديث صحيح قد رواه البخاري في صحيحه، وأبو داود والنسائي، وأقره أهل الحديث قاطبة، ولم ينكره أحد منهم – فيما قد علمت - .
وكان الأولى إلا ينكره العلماء من الأطباء وغيرهم لمجرد أنهم عرفوا مضار الذباب، ولم يعرفوا منافعه، أو لمجرد أن فلاناً منهم قد أنكره.
ولماذا نسارع إلى الإنكار قبل التأكد من صحة الحديث، على أن علماء الحديث قد أجمعوا على صحته، فلم يدعوا ريبة لمرتاب، إلى آخر ما قلته في تلك المحاضرة، ثم توجهت إلى هذا الطبيب، فقلت له: إن لدي بحوثاً كثيرة تثبت صحة هذا الحديث من الناحية الطبية، ولكنه تمادى في الإنكار وولى مدبراً في عزة وشقاق.
وهذا الموقف جعلني أفكر بجدية في أمر هؤلاء المنكرين للأحاديث النبوية من غير تريث ولا تدبر.
ولو أحسنوا الظن برسول الله صلى الله عليه وسلم لاستماتوا في البحث عن صحته من الناحية الطبية، لم يسارعوا إلى إنكاره، ولكن الهدى هدى الله.
ولقد أخذت أبحث في المراجع العلمية عن أضرار الذباب ومنافعه إيماناً مني بهذا الحديث، واعتماداً على قوله تعالى:
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }
(سورة آل عمران: 190-191)
وأخيراً وقع في يدي بحث علمي نشر في مجلة الأزهر موثق بالأدلة، كتبه اثنان من كبار العلماء في مجال الطب ودراسة الحشرات الضارة والنافعة، فخفت على هذا البحث من الضياع فنشرته بنصه في كتابي (الفقه الواضح من الكتاب والسنة على المذاهب الأربعة) وذلك في الجزء الأول منه، وها أنا أذكر لك طرفاً منه.
قال الدكتور محمود كمال، والدكتور محمد عبد المنهم حسين فيما قالا تحت عنوان: "كلمة الطب في حديث الذباب": كنا نود أن يفهم الحديث على أسس ثلاثة:
1- عدم التعرض لصحة الحديث، فهذا من اختصاص فقهاء الحديث والعلماء الذين درسوا العلم والحديث، وعرفوا كيف يستبعدون الأحاديث المكذوبة.
2- محاولة البحث العلمي بافتراض صحة الحديث الموصول إلى حقائق أنبأنا عنها النبي صلى الله عليه وسلم:
{ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى }
(سورة النجم: 3-4)
3- عدم الخوض في موضوع مادة الحديث قبل الرجوع إلى المراجع العلمية الكافية عن الحشرات وعن طفيليات الحشرات.
لهذا وجدنا بعد قراءة الموضوع، والمجادلات المتبادلة بين الفريقين في الصحف والمجلات منذ مدة طويلة، أن نحاول أن نرد الحق إلى نصابه.
ذلك أن بعضنا بعد قراءة آراء فقهاء الحديث عن صحة الحديث لم يتردد في تصديقه، وحاول أن يرجع إلى المراجع العلمية التي تؤيد صحة الحديث.
ثم ذكرت البحوث التي أجراها العلماء على جناح الذبابة الأعلى، فوجدوا أن به فطريات وخمائر تحمل مضادات حيوية كفيلة بقتل ما تحمله الذبابة في جناحها الأسفل من الجراثيم الخطيرة.
وبعد كلام طويل في ذكره هذه البحوث قالاً:
(في سنة 1957 عزل (موفتيس) مواد مضادة للحيوية من مزرعة الفطريات الموجودة على جسم الذبابة، ووجد أنها ذات مفعول قوي في بعض الجراثيم السالبة لصبغة جرام، مثل جراثيم التيفويد، لمقاومة الجراثيم التي تسبب أمراض الحميات التي يلزمها وقت قصير للحضانة، ووجد أن واحد جرام من هذه المواد السامة الحيوية يمكن أن يعقم أكثر من (1000) لتر لبن من التلوث بالجراثيم المرضية المذكورة، وهذا أكبر دليل على القوة الشديدة لمفعول هذه المواد).
(أما بخصوص تلوث الذباب بالجراثيم المرضية كجراثيم الكوليرا، والتيفويد، والدويسنتاريا، وغيرها، التي ينقلها الذباب من المجاري والفضلات، أو البراز من المرضى، وهي الأماكن التي يرتادها الذباب بكثرة، فمكان هذه الجراثيم يكون فقط على أطراف أرجل الذبابة، أو في برازها، وهذا ثابت في جميع المراجع البكتريولوجية، وليس من الضروري ذكر أسماء المؤلفين، أو المراجع لهذه الحقيقة المعلومة، ويستدل من كل هذا على أنه إذا وقعت الذبابة على الأكل، فستلمس الغذاء بأرجلها الحاملة للميكروبات المرضية، وإذا تبرزت على الغذاء سيلوث الغذاء أيضاً – كما ذكرنا – بأرجلها، أما الفطريات التي تعزز المواد المضادة للحيوية، والتي تقتل الجراثيم المرضية الموجودة في براز الذبابة ولا تنطلق مع سائل الخلية المستطيلة من الفطريات والمحتوى على المواد المضادة للحيوية؛ إلا بعدأن يلمسها السائل الذي يزيد الضغط الداخلي لسائل الخلية، ويسبب انفجار الخلية المستطيلة واندفاع البذور والسائل.
وبذلك يحقق العلماء بأبحاثهم تفسير الحديث النبوي الذي يؤكد ضرورة غمس الذبابة كلها في السائل أو الغذاء، إذا وقعت عليه الجراثيم لإفساد أثر الجراثيم المرضية التي أشار إليها الحديث، وهي أن في أحد جناحيها داء (أي في أحد أجزاء جسمها الأمراض المنقولة بالجراثيم المرضية التي حملتها) وفي الآخر شفاء، وهو المادة المضادة للحيوية التي تفرزها الفطريات الموجودة على بطنها، والتي تخرج وتنطلق بوجود سائل حول الخلايا المستطيلة للفطريات).
ويقول بعض طلاب العلم: إن غمس الذباب في الطعام أو الشراب ثم تناوله بعد ذلك أمر مستقذر فكيف يأمر النبي صلى الله عليه وسلم به، ومن الذي يرضى أن يتناول شيئاً سقط فيه الذباب؟.
أقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بذلك أمر إيجاب ولكنه أمر إرشاد وتوجيه فمن شاء فعل ولا حرج عليه، ومن شاء ترك ولا حرج عليه؛ لأن هذا الأمر ليس من الأمور التعبدية، ولكن من عرف هذه الحقيقة العلمية أدرك صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغ عن ربه من جهة، واستطاع أن ينتفع بطعامه وشرابه وهو آمن على نفسه من الأضرار التي يحملها الذباب في جناحه الأسفل من جهة أخرى.
بل ربما كان غمس الذباب في الطعام والشراب ثم تناوله بعد ذلك من أعظم الفوائد الطبية لما يحمله الذباب في جناحه الأعلى من المضادات الحيوية القوية.
ولربما يكون فيها دواء ناجح لأمراض كثيرة كانت كامنة في الجسم وعجز الطب عن علاجها، كفقدان المناعة مثلاً، وما يدريك! لعل الطب يكشف عن حقائق علمية أخرى مذهلة يكون هذا الحديث فاتحاً لأبوابها، ولو رجعنا إلى الكتاب والسنة لوجدنا الكثير والكثير من الحقائق العلمية التي لا يستطيع البشر أن يكتشفها إلا إذا آمن بالله ورسوله، فالإيمان هو سبيل التوفيق إلى الكشف والاختراع، وإلى صلاح أمر الإنسان في أمور دينه وشئون دنياه.
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب